رئيس التحرير
عصام كامل

الجودة على الطريقة المصرية


في عام 2015 احتلت مصر المرتبة قبل الأخيرة في المقدرة التنافسية لمؤسسات التعليم حيث حصلت على المركز 139 من 140 دولة وجاءت قبل غينيا التي احتلت المركز الأخير بين دول العالم. وقبلها في عام 2013 تم حل مجلس إدارة الهيئة القومية لضمان جودة التعليم وطال القائمين عليها المنوط بهم إصلاح التعليم اتهامات بالفساد والاستيلاء على المال العام وتربيح موظفى أمانة مجلس الوزراء التي تتبع لها الهيئة وإنفاق مليارات من الجنيهات على عمليات الاعتماد دون وجود مردود حقيقى حتى الآن.


ودفعنى كل هذا إلى محاولة عمل مراجعة سريعة لجوانب الموضوع. الجودة لغةً هي بلوغ شيء ما درجة عالية من النوعيّة الجيدة والقيمة الجيدة ويمكن تعريفها بأنها مجموعة الخصائص والسمات التي يجب توافرها في المنتج أو الخدمة بحيث تجعله يقوم بوظيفته على أكمل وجه.

وقد وضع ديفيد جارفين عام 1987 نقاط لقياس جودة المنتج تشمل الأداء والثقة والسمعة والبقاء والخدمية ومطابقة المعايير والجماليات والمزايا الخاصة. وتقاس جودة أي خدمة بالدقة والتناسق ودقة الوقت والسهولة وسرعة الاستجابة وحسن المعاملة والكمال.

منذ أكثر من عشرين عاما بدأ مفهوم الجودة الشاملة والاهتمام ليس فقط بالهدف النهائى وإنما على المراقبة المستمرة إضافة إلى الهدف الأساسى وهو تحقيق المنتج النهائى سواء كان خدمة تقدم أو سلعة تستهلك للخواص المطلوبة وحصوله على رضا المتلقى والمحافظة عليه.

لكن مع انتشار ثقافة الجودة في العالم انتقلت سريعا إلى مصر وبدء الرواد في محاولة نشر ثقافة الجودة في مصر إلا أن ذلك لم يكن سهلا فبعد عشرات السنين من الانهيار المستمر في التعليم والتراجع الكبير في دور المدرسة والجامعة في تشكيل وجدان الطلاب في المراحل السنية المبكرة فضلا عن انتشار ثقافة الغاية تبرر الوسيلة وتجنب بذل الجهد والسعى إلى المكسب المادى بأقصر الطرق كل ذلك جعل ثقافة الجودة تمثل تحديا لكل ما تعودت عليه ثلاثة أو أربعة أجيال متعاقبة.

لكن بدأت الجودة تأخذ في مصر مسارا مختلفا عن غالبية دول العالم فبدلا من وضع معايير واضحة لتقييم جودة الخدمات عن طريق مستوى المنتج النهائى والمراقبة الدائمة لمعايير الجودة طوال عملية تقديم الخدمة أصبحت الجودة تعنى استيفاء أوراق وتشكيل لجان وصرف بدلات دون النظر إلى مردود كل ذلك على جودة الخدمة أو المنتج وأستطيع أن أقولها وأنا مرتاح الضمير أن الجودة في مصر تحتاج لتطبيق معايير الجودة عليها في محاولة لإصلاحها. وإذا أخذنا أهم الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين وهى التعليم والصحة كمثال لما آلت إليه محاولات تطبيق معايير الجودة ونشر ثقافة الجودة في مصر نستطيع أن نتصور حجم المشكلة. بعد محاولات بدأت في الثمانينات من القرن الماضى واستمرت ما يقرب من عشرين عاما صدر القانون رقم 82 لسنة 2006 بإنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم وتبعه القرار الجمهورى رقم 22 لسنة 2007 بلائحتها التنفيذية.

وأستطيع أن أقول إنى بعد أعوام طويلة في الغرب قد كونت فكرة عملية عن الجودة واستطيع أن أضرب مثالا بأن جودة تورتة عيد الميلاد مثلا هي أن يتمتع من يأكلها بالمذاق الشهى والقيمة الغذائية المطلوبة والصحية ثم أن تكون جاذبة شكلا بما عليها من رسوم وألوان وأن يكون ثمنها مناسبا لحجمها وكفايتها لعدد مناسب من الأفراد وأن عملية الإنتاج والنقل والبيع لابد من أن تكون مراقبة بشكل يستهدف الحفاظ عليها من التلوث وأن تكون معاملة العاملين والدعاية للمنتج جاذبة للمستهلك وتحافظ على استمرارية شرائه للمنتج.

إذن فإن الهدف الأساسى هو جودة المنتج وزيادة المبيعات ورضاء المستهلك والباقى وسائل للوصول لذلك الهدف.

وبعد أكثر من عشرة أعوام من إنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم أجد أن التعليم المصرى ما زال في حال التدهور فلا مستوى الطالب في نهاية كل مرحلة تعليمية تحسن ولا أرضت نوعيات الخريجين سوق العمل وحتى على مستوى العملية التعليمية نفسها أستطيع أن أقول أننا ما زلنا ندور في دائرة مفرغة فما زالت المدارس غير جاذبة للطلبة وما زالت الدروس الخصوصية هي طريقة التعليم الحقيقية وما زالت طريقة التعليم في المدارس والجامعات المصرية هي طريقة التلقين التي انتهت من كل دول العالم المتقدم منذ عشرات السنين. 

لكننا من السهل أن نلاحظ أننا أضفنا شكلا لنظام تكلف مليارات الجنيهات وما زال الإنفاق عليه مستمرا واستغله المصريون كالعادة في استحداث شهادات وإنشاء مناصب والحصول على أموال دون الوقوف بجدية مع النفس وتقييم جدية ما نفعل وتأثيرة على الهدف المنشود وأن نسأل نفسنا على استمرار العمل بنفس الطريقة يمكن أن يؤدى إلى تغيير حقيقى في المستقبل القريب.

إذا سألنا أنفسنا سؤالا واحدا هل حدث تغيير حقيقى في جودة المنتج النهائى وهو الخريج في كل مرحلة تعليمية ؟ وهل التعليم في مصر بعد ما يقرب من ثلاثين عاما من بدء نشر ثقافة الجودة وأحد عشر عاما من إنشاء الهيئة القومية لجودة التعليم ومنح آلاف الكليات والمدارس شهادة اعتماد الجودة قد صار أفضل؟ هل أصبحت الجودة ككل شيء في مصر هي مجرد شهادة تمنح أو نظام يحمل في طياته مكاسب مادية أو أدبية للبعض دون تحقيق الهدف المنشود وهل استمرار النظام الحالى سيؤدى إلى التغيير المطلوب؟

ظنى أننا أصبح لدينا مشكلة فكرية في الموضوع فقد سمعت مؤخرا الدكتورة يوهانسون عيد رئيس الهيئة القومية لضمان جودة التعليم عندما سئلت عن عدم حدوث أي تأثير حقيقى على مستوى التعليم أو الخريج بعد كل هذا الإنفاق ومرور أكثر من عشر سنوات على إنشاء الهيئة بل أن البعض يتهم الهيئى باستمرار تدهور التعليم رغم إنفاق هذه المليارات فكان ردها أن الهيئة ليست جهة تنفيذية أو رقابية لتكون مسئولة عن ذلك وأن الهيئة مستقلة دورها اعتماد المؤسسات!

الحقيقة أننى صدمت عند سماعى لهذا فلم أحس في كلماتها حملا لهم التعليم المصرى وأحسست أننى أستمع لموظف كبير يظن أن مهمته استيفاء الخطوات وليس حل المشكلة. وحتى يؤمن القائمون على الهيئة أن هدفهم هو التعليم وليس الهيئة وأن الجودة بالأساس رقابة على العملية وعلى المنتج نظل ندور في تلك الحلقة ونستهدف الشكل ونوزع أوراقا تحمل عنوان شهادة اعتماد تعطى صفة الجودة لشيء شكله قد يكون جيدا لكن منتجه غير جيد!
للحديث بقية إن كان في العمر بقية....
الجريدة الرسمية