رئيس التحرير
عصام كامل

تجديد الخطاب الصوفي


الخطاب الصوفي، أو الكيفية التي تخاطب بها الطرق الصوفية مريديها، ومحبيها، ومؤيديها، وحتى أعداءها، ومنتقديها.. صارت الضرورة الآنية تحتم التطوير، والتجديد.


العالم كله يتطور.. التكنولوجيا تقود عملية التنمية.. لكن التصوف، أو بالتحديد، الخطاب الصوفي، لا يزال يكتنفه الجمود، ويعتريه الصدأ.. قابع في مكانه، لم يتحرك منذ مئات السنين.. رغم انضواء العديد من المثقفين، وقادة المجتمع، والفنانين والمفكرين، والفقهاء، والعلماء، وقادة الرأي، إلى الفكر الصوفي، واعتناق الآراء والأساليب الصوفية، بل وبعض هؤلاء فاعلون في الطرق الصوفية.

القادة الأوائل للتصوف، مثل الحسن البصري، وإبراهيم بن أدهم، والحارث بن بشر، والفضيل بن عياض، وسهل بن عبد الله التستري، وأبو يزيد البسطامي، وسفيان الثوري، مروراً بأحمد الرفاعي، وإبراهيم الدسوقي، والسيد البدوي، كانوا يخاطبون أبناء جيلهم، والعائشين في نفس ثقافاتهم، والمنتمين لنفس المدارس الفكرية أو المعاصرة لهم.

لكن الدكتور عبد الحليم محمود، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والدكتور أبو الوفا التفتازاني، حاولوا ومعاصريهم، تطوير الخطاب الديني بعامة، والصوفي بخاصة، وسعوا حثيثًا نحو تنقية التراث الصوفي مما شابه من خرافات، وأباطيل، والتفرقة الواضحة بين التوكل والتواكل، وتبيان المعاني الحقيقية للزهد والورع، وجهاد النفس، والحض على العمل، وعدم الركون إلى الراحة والكسل والدعة.

ما أخذه السلفيون الأوائل، كابن تيمية على التصوف، والمتصوفين ما زال جاثمًا على الصدور، لم يتحرك قيد أنملة، مثل الكسل، والجهل، والتفريط، وتجاهل قيم العمل والسعي والكسب والتفقه في الدين، والإحاطة علمًا بعلوم العبادات، والتفسير، والحديث الشريف.

مطلوب تحرك سريع من جانب المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وإنشاء لجنة لتجديد الخطاب الصوفي، وتصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة لدى أبناء الطرق، وأيضًا لدى الشرائح المعارضة للتصوف فما تشهده الموالد، والاحتفالات، من تحرش وبلطجة، وإساءة للمناسبات العظيمة لا يجوز أن يستمر في هذا العصر.

كذلك لا بد من اللجوء لاستخدام التكنولوجيا في عملية التجديد والتطوير والتوعية، كذلك فتح الباب على مصراعيه لتنظيم ورش عمل، ودورات تدريبية، داخل مصر وخارجها، لتعلم صحيح الدين، دون خوف من تشدد وتطرف ونحوه.. من الأهمية بمكان؛ ذلك أن المتصوفة يحتاجون إلى بعض التسلف، والسلفيون تعوزهم درجة من اللين والروحانية، كما قال المفكر الإسلامي الدكتور "ناجح إبراهيم" القيادي السابق بالجماعة الإسلامية، وعضو مجلس الشورى بها سابقًا.

ومن محاسن الصدف أن عَمُر مولد الإمام الحسين الذي احتفلنا به منذ أيام بالكثيرين من المثقفين، وذوي المناصب العليا في الدولة وأساتذة الجامعات، وهؤلاء لا يخشى منهم على التصوف، بل هم ممن يجب أن يناط بهم تجديد الخطاب الصوفي، لا أن يتم تحييدهم كما كما هو الحال حاليًا.

التصوف الحقيقي عبادات وعادات ومعاملات.. عمل وسعي ودأب.. ثقة لا تهتز في الله ورسوله، وأهل بيته، كفاح مستمر، وعزيمة لا تفتر، وحماس لا يهدأ، وطموح لا يعتريه الإحباط.. تواضع، وحب وتسامح، وكرم، وحرص على المصلحة العامة، وحب الخير للغير، وأخوة في الله.

اقرأوا عن الدكتور "عبد الحليم محمود" شيخ الأزهر، وحياته التي كانت جهادًا متصلًا.. ويكفيه موقفه من الرئيس جمال عبد الناصر، وكان الوزراء والسياسيين يخشون الجهر بمعارضة مواقفه، لكن شيخنا، بعد عودته من فرنسا كان يرتدي البدلة، غير أنه بعد سماع خطبة للرئيس عبد الناصر يتهكَّم فيها على الأزهر وعلمائه بقوله: "إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه" فغضب الشيخ لمكانة الأزهر، فما كان منه إلا أنه خلع البدلة ولبس الزيَّ الأزهريَّ، وطالب زملاءَه بذلك، فاستجابوا له تحديًا للزعيم، ورفع المهانة عن الأزهر وعلمائه.

كما كان له موقفه الشجاع نحو قانون الأحوال الشخصية الذي روَّج بعضُ المسئولين لتعديله؛ بحيث يقيَّد الطلاق، ويُمنَع تعدد الزوجات، فانتفض الشيخ فقال: "لا قيودَ على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ على التعدد إلا من ضمير المسلم، ولم يهدأ حتى أُلغي القرار".

كما لا ينسى أحد مواقفه من المحاكمات العسكرية ضد جماعات التكفير، وموقفه الشديد ضد قانون الخمر؛ حيث ندَّد به في كل مكان، وموقفه أيضًا من الشيوعية والإلحاد، وموقفه العظيم من الوفد البابوي.

لقد حاول الشيخ إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء من الأكفاء ومِن حِسَان السمعة والعدول، وكانت حياة الشيخ عبد الحليم محمود جهادًا متصلًا وإحساسًا بالمسئولية التي يحملها على عاتقه، حتى لَقِي الله بعدها في صبيحة يوم الثلاثاء 17 من أكتوبر 1978.

ابن الجوزي أفرد فصلًا خاصًا في كتابه "صفة الصفوة" للزهَّاد والصوفية الأوائل الذين رابطوا في العواصم والثغور في القرن الثاني للهجرة، ومما حفظ التاريخ عن جهاد الصوفية: جهاد عبد الله بن المبارك (ت 181هـ) مع الصوفية ضد ثغور الروم. 

وإبراهيم بن أدهم (ت 161 هـ)، إمام الصوفية، ضد البيزنطيين، وجهاد محيي الدين بن عربي الصوفي المشهور (ت 638 هـ) وتحريضه للمسلمين على الجهاد ومقاومة الغزاة الصليبيين.. وعبد السلام بن مشيش (ت 622 هـ) حتى استشهد على يد مدعي النبوة ابن أبي الطواجن الكتامي.. ومشاركة أبي الحسن الشاذلي (ت 656 هـ) في معركة المنصورة (سنة (647 هـ) والتفاف أتباعه حوله.. وجهاد أبي العباس المرسي (من تلاميذ الإمام أبي الحسن الشاذلي)، والإمام العز بن عبد السلام (ت 660هـ) ودوره في الإعداد لمعركة "عين جالوت"، والأمير عبد القادر الجزائري الصوفي (1832-1847 م) قائد الثورة في الجزائر ضد الاحتلال.

والبطل المجاهد عمر المختار الصوفي، التابع للطريقة الصوفية السنوسية (1858-1931 م)، والذي جعل من زاويته الكبرى في واحة الجغبوب مقرًا ومركزًا للعمليات العسكرية حتى استشهاده.. والشيخ أبو المحاسن الفاسي وإسهامه الكبير في معركة وادي المخازن التي أذل الله فيها البرتغاليين.. والشيخ ماء العينين (ت 1910 م)، الذي تزعم حركة المقاومة بالجنوب في وجه الفرنسيين.

التصوف سلوك قويم، وكفاح وجهاد.. ونكرر: نحتاج لتجديد الخطاب الصوفي.
الجريدة الرسمية