رئيس التحرير
عصام كامل

بين «ستالينغراد» و«شفيقة»


يجسد "البطل" مجموعة من القيم التي يتبناها أفراد المجتمع، فيصبح المثل الأعلى الذي تشيد به الأعمال الأدبية والفنية، وتمجده القصص الشعبية وعندها تختلط الحقيقة بالأحلام صانعة أسطورة البطل.


لا تعيش المجتمعات بدون أساطير الأبطال، فهي حالة اجتماعية وثقافية للتعبير عن الأمنيات في أوقات البناء وللتعزية في أوقات الضعف، وإذا لم يجدها أفراد المجتمع في الواقع فهم يبتكرونها من الخيال لبث الأمل وإيجاد القدوة. وفي الفيلم الأمريكي (العدو على الأبواب) الذي يدور حول معركة ستالينغراد بالحرب العالمية الثانية..

نشاهد القائد السوفيتي يسأل ضباطه عن أفكار لمجابهة الألمان الذين سيطروا على معظم المدينة ولم يعد لديهم سوى آخر خط دفاعي يكافح للبقاء، فصرخ أحدهم (أعطينا الأمل.. نحتاج إلى صناعة بطل لنقتدي به) وبالفعل نجحت الفكرة وانتصرت روسيا وأعادت بناء مدينتها بعد أن دمرها الغزاة.

صناعة الأبطال تقليد قديم، فقد حرص الحكام على تكريم الأبطال الحقيقيين والتشجيع على ابتكار آخرين عبر الخيال.. فنجد أن الإمبراطور أوغسطس، أول أباطرة الرومان، تسلم روما وهي مصابة بالتفكك الاجتماعي والانحلال الأخلاقي فجهز برامج إصلاحية للارتقاء بالمجتمع تضمنت توجيهه للشاعر "فرجيل" لكتابة (الإنياذة) والأخير جعل "إينياس"، بطل الملحمة الشعرية، يتسم بجميع الصفات والقيم المثالية التي يتمنى الإمبراطور ترسيخها في أبناء مجتمعه.

استمر أبطال الملاحم الشعرية، والأساطير الخيالية، والسير الشعبية يُلهمون أبناء الحضارات المتعاقبة حيث لا يقتصر دور البطل في زمن معين أو مكان محدد، ولا يتوقف عن أداء مهامه إلا إذا تغيرت قيم المجتمع عندها يتحول إلى "بطل من ورق" يطير من أذهانهم سريعًا فقد عجز عن مواجهة رياح التغيير؛ وعندها تستبدله الشعوب التي لا تصنع الأبطال بغرض تكريمهم ولكن للتعبير عن تطلعاتهم ومواجهة مشكلاتهم تفسيرًا لمعنى كلمة البطل فهو الذي "يُبطل" أو يزيح أمر سيئ أو كارثي ويمنع حدوثه.

ومثلما يُصنع "الأبطال" لتوجيه المجتمع، فإن الجماهير تفرز أبطالها ولكن الخطورة في أن ما قد يعتبره أحدهم "بطولة" قد يراه آخرون "جريمة"، مثلما خرج موال (شفيقة ومتولي) من رحِم مجتمع يؤمن بالثأر ليمجد مجرما قتل أخته غير عابئ برجائها أن يساعدها على تصحيح مسار حياتها للأفضل!

وهنا تكمن أهمية التوجيه خصوصًا في مجتمع يفكر بعض أفراده بثقافة (آه لو لعبت يا زهر) وهو ترسيخ لمبادئ "الفهلوة" وانتظار ضربة الحظ التي هي أسرع وأسهل كثيرًا من بناء النجاح عبر التراكم والاجتهاد لذا ترك الأمر لرغبات جانب من الجمهور قد يحول البطل من "أسطورة" تُلهم الجماهير للمسار الصحيح إلى مسلسل "الأسطورة" الذي انتصر لإنجازات القتلة وتجار السلاح.

صناعة الأبطال من الواقع واستحضارهم من كتب التاريخ والأدب أكثر أهمية من الصناعات الثقيلة، فهم الأمل للارتقاء بكافة المجالات حتى يصبح لدينا البطل والنموذج الأسري والسياسي والإعلامي والفني والديني والرياضي وغيرهم، فلا يمكن لمجتمع أن يحارب للبقاء طويلًا إذا ربط فكرة البطولة بنماذج المجرمين والقتلة والراقصات والعاهرات، كما سيتضرر كثيرًا إذا صنع بعض أفراده "أبطالا زائفين" كتمجيد امرأة أنجبت خارج إطار الزواج الرسمي ومحاولة جعلها نموذجا يقتدى به أو اعتبار أن لاعب الكرة الموهوب يمكن جعله فوق القانون والمحاسبة!

طوال سنوات ماضية تم تجريف الكثير من قيم مجتمعنا وهذا أسوأ من تدمير ستالينغراد.. علينا البحث عن الأبطال والاقتداء بهم لكي لا ينهار آخر خط دفاعي من قيم المجتمع.. وحتى نتمسك بالأمل لنُعيد البناء.
الجريدة الرسمية