أحمد الغرباوى يكتب: قصة حُلم

( حُبّ حقيقى ).. لم يلتحف بدفء الرغد.. ولم ينعم قلبه بترف الهوى.. لم يرفل يومًا بلمس ( تايورها الجينزى) في رواح ومجيء حَبْيبه جنبه..

لم يرد غير أن يَعْش الدنيا بجوارها.. ويأمن من زمنه الأكبر منها.. الأبيض شعره.. في حُضْن زمنها الذي حتى هذى اللحظة.. لايعرف لون شعره.. طوله أو قصره.. روحه تنفذ بنود دستور عشقه..

يُحْبّها في الله.. فيؤمن خير الله.. تتناثر أحرفه أرقى وأرق وأجلّ وأعلى.. تكشف سرائر وجده..

وتسلم وتذعن وتقبل مشاعره؛ بما يأتى ربه في حقله من ثمار عِشْقه.. من وصل بعد طول سفر.. وتباعد المسافات.. وقسوة ووحشة فراق.. وخشية عدم القدرة على تحمّل الافتقاد..؟

هل يمكن أن يرى في غيم الأفق بهجة فرح.. ورفرفة أمل.. ويشمّ أريج رؤاه في حُبّه.. فتتبخر عذابات العشق.. وتتكسّر قيود اللوعة والحرمان.. ومن حُفْر وندوب خدّ الروح يتحرّر الشوق..

فيسأل الله وَصْلَ حَبْيبه.. وفى رؤية الفرح يتضرع إليه.. تصرخ في نفسه.. وينشد في قحط الحب غيث المحبوب.. وفى جوى الليل راحة صُبْحه.. ويتعلّق المُحْبّ بحرير أمل؛ في أن يأتى تهادى رأس المحبوب على حِجْره.. حتى لايَسّاقط كل تسابيح وترتيل جداول وخمائل شغفه من ندبة خدّها على فخذى آخر غيره..!

ونترك مقرّ عملنا.. يشدّنى الحُبّ وأنت.. يجرفنى من ذاتى ويومى.. ويجرى من زمنى.. نوقف تاكسى.. يقلنا إلى مَحْطة القطار.. تخطفك روحى.. وتشفقين عليها.. وتعطفين على عِشْقى.. وتتركين لى يدك..

ـ يامجنون.. انتظر إلى أين..؟

وأدفعنا.. داخل قطار متجه إلى الإسكندرية نقفز.. لم نحجز تذاكر.. لا أعرف موجود كراسى خالية أم لا.. تقطع المسافة انتظارنا في ظل شجرة؛ وسط خضرة يافعة.. ورأسى تنام في حِجْرك أعلى جيبتك الجينز.. لإيرانا غير بقايا خيال مآته.. عليه أثواب مُهْلهله.. مَفْضوح لكل الطيور..

نصل محطة مصر.. نأخذ تاكسى أصفر إلى شاطئ خاص.. ولاتزال أصابع يدى تقبض على أصابع التاكسى.. والابتسام لا يفارق شفتيك..

ويستقبلنى الحارس.. وتنظرين إليه.. تحاولين في حياء تخليص يدك:
ـ الحارس..؟
الحارس..؟
ويأخذنى في حُضْنه..

_ أستاذ (....).. أهلا ياهانم..
ترابيزتك وشمسيتك جاهزة.. ويسبقنا إلى طرف الشاطئ.. حيث شمسية وعدد 2 كرسى ومنضدة صغيرة..
وتنظرين إلى في دهشة..

عشرون عامًا حَبْيبتى..
عشرون عامًا حَبْيبتى.. لم يجلس أحد على الكرسى الثانى.. ينتظر حبيب.. ويدى لاتفارق أصابعك.. بل تضغط أكثر رغم وجود الحارس.. وتطلّعات البشر..

وأنت تجلسين.. يميل علىَ الحارس العجوز الطيب..
ـ أخيرًا يا أستاذ.....
ينشغل الكرسى الخالى..!

عشرون عامًا يعرف سرى.. وأشعارى.. وكتاباتى.. وأسأله بعينى..
ـ ما رأيك..؟
هل تستحق هذا الانتظار الطويل..؟

_ ياولدى..
في عينيها صُفْرة رِمْال ذهّبتها الشمس عشرات السنين.. بين شفايفها لآلئ تشرق بياضًا.. يستحى منه الغروب الذي تعشقه خجلًا خلف سطح البحر..!

ياولدى..
إيماءاتها رقة تعذب البحر.. ويغار منها الزبد.. ويهرول بين فراغات قدميها حُبْيبات الرمل.. في شغف شوق للمس حفيف أصابعها ودفء جلدها..!
ياولدى إنها في حاجة إلى شطّ خاص.. بعيدًا عن عيون الناس.. ففى كل إيماءاتها رأيت أجمل إحساس..!
ـ ياشيْخى الطيب..

رُقْىّ روحها ورقة حنانها وبراء حضورها هو ما انتظرته أبد الدهر..
_ ياولدى وهبك الله عظيم وجود، وندرة إبداع خلق، لايستحقه على الأرض كل موجود..
إنها معجزة..!

وأُدخله في حضنى..
ـ ياحارسى الطيب.. هات لها كل ماعندك.. لايهم الفلوس.. لكن حَضّر لنا الآن مكان نصلّى فيه.. فحبنا في الله دائمًا يسبقه شكر الله..
_ حاضر..
بس.. إنتم ضيوفى النهاردة..

واللا عاوز تشتمنى..؟
وهبك الله الرضى بذاك العطاء الربّانى.. وعاوز تِحْرمنا من أن نشاركه في ضيافة نعمته..
السماء تحتفل بك.. وعاوز تخلينا من الدون أن نبخل على مشاركتك نحن أهل الأرض..!
ويقترب من أذنى..

_ طول ما حُبّك بين يديك.. أنت ضيف الشطّ والموج والزبد.. وكل ما يملك حارسك الطيب..
وعندما تنتهى من الصلاة.. ستجد على شمسيتك كل خير على الشطّ والبر إن شاء الله..

◄◄◄
وأعود وأنْتِ..
أعود وأنت حَبْيبتى من الصلاة بحجرة الحارس.. وتتناثرين بين أصابع أقدامنا ذرّات الرمل احتفالًا بقدومنا.. تنشغلين بالرمال.. وأنا أسْبَحُ في ترمّل صُفْرة عينيك وأنت تبتمسين..
ـ الرمل تحت مش فوق..!
خللى بالك من عيون الناس.. دايما فاكر إننا عايشين وحدنا..!
ويضع الحارس كل المشروبات المثلجة.. والآيس كريم.. ومأكولات مغلفة جاهزة.. وزجاجات مياه معدنية.. وصندوق قمامة.. وشمسية ثانية لإعطاء مزيد من الظلّ.. وكرسى مبطن بالقماش الخيامى للنوم..

وتنظرين لى..
_ انهم يحبون قوى..
باين إنت زبون عندهم من زمان..!
ـ منذ انتظرتك حبيبى..؟

منذ انتظرتك وخيالى يرسم ملامحك على وجه الغروب.. ألهو والأصابع التي ستشاركنى العبث.. وتفريغ الرمال بين أصابعنا.. وصبّها في بطن كفك.. وقذف كرات الرمل المعجونة بمىّ البحر.. ووشوشة الودع المُلقى على الشط.. ورمى زلطة صغيرة لأقصى مدى.. ودغدغة كعب قدميك.. بفقاعات زبد البحر.. ومن كُلّ بائع سريح.. يمرّ من هنا اشترى من الحاجة اتنين.. واحدة لى والثانية لك.. يضعهما في كيسين؛ أو علبتين؛ أوقرطاسين؛ أو بسكوتتين..

أترقب مساء كُلّ يوم قرص الشمس.. في خجل يختال وهو في طريقه ليقبل سطح مَىّ اليمّ.. تتمنّع وهى في طريقها إلى الماء.. وتصّاعد يدى.. تحتضنها بين كفى.. حمراء الخدّ.. لايَحْسّ ولايشعر بلسعة خدّها غيرى.. على وجه الغروب مرسوم ملامح وتقاطيع رقة وجهك حبيبى..
وتتراقص حول القمر الغارب عذروات السمك.. يزفّهم ليل الوجود المُضاء بعشق الروح إلى جزيرة نائية بين الأعشاب المُرْجانية في أعماق البحر..
بعيدًا بعيدًا عن قلوب موحشة لاتعرف الحُبّ في الله.. وتتمنّى الحُبّ.. وهى لاترقى ولاترتقى إلى مداه.. وتعتب.. تعتب ياحَبْيبى على فقدها الحُبّ.. وهى لاتملك غير شباك صيد وشهوات قرصان بحر..

ويجهل ياحبيبى أن الحُبّ لايصطاد.. أن العشق في الله ليس فريسة تغتصب.. والعاشق ما كان يومًا صياد..!
الحُبّ إنسان يحمل قلب يحب.. يمتطى البحر في قارب ينتظر حبيب..

ياحبيبى.. الحب رزق.. الحب هبة الربّ.. لمن يرقى ويرتقى بذاته لسدرة منتهاه..!
_ اتأخرنا.. يا (....)
تعبت..!
ويطبر بنا التاكسى في الطريق إلى شقتنا الصغيرة في الإسكندرية.. لا أحب البيوت الفسيحة في وجودك فتبعدك عنى.. فأحتاج لأرفع صوتى لأراك..؟

_ ألا نعود للقاهرة اليوم..!
ـ لا ياحبيبتى..!

_ إنت كده ح تتعبنى.. الشقة كلها تراب.. محتاجة تنضيف.. وأنا تعبانة.. واحنا بالليل.. مش ح أعرف أنام كده.. نرجع للقاهرة.. وأوعدك آخر الأسبوع أكون معاك.. أو حتى ناخد إجازة.. و..
وبرفق يتماس إصبعى على فمها.. ترسل كل حنانها في عينيها..!

وتدخل العمارة.. ولاتزال أصابعى تحتضن أصابعك.. يتجاهلنا الحارس.. ويتمتم.. عاشقا العمارة.. ويرفع صوته..
_ أستاذ (....) أبعت لك حاجة قبل ما يقفل السوبر ماركت..؟
وأنظر اليه دون أي كلمة..
ـ كيف أجوع.. وحَبْيبى معى..؟

مش عارف يا حبيبى.. إن في شقتنا كلّ حاجة..!
وإننا لانأتى هنا إلا للحُبّ.. وقبل ما نغادر.. نملأها للحب القادم.. الذي لايغيب كثيرًا عن أيّامنا..!
ده عشّ الحُبّ.. اللى عُمْرنا ما بنضيع فيه وقت.. إلا لـ ومع الحُبّ..؟

وأحضن يدها من جديد..
ـ أُعذرهم حبيبى..فهم لايعرفون ( الحب الحقيقى )..؟
في عينيك أرى نظرة حب كبير.. مُغلفة بسلوفان عتاب رقيق.. وقبيل أن يصلنى كنت قد تركت يدك.. وحملت بين ذراعى داخل الأسانسير قطتى الصغيرة..

_ يا مجنون.. حدّ يوقف الأسانسير..!
وتسحبين المفتاح من جيب قميصى.. تفتحين الباب.. ولازلت مُعْلقة بين روحى ويدى..!
وتضحكين.. تعرفين إلى أين نتجه.. تضحكين..
وأفتح البلكونة.. وأتهادى بك على الكرسى الهوائى الذي تحبّين النوم فيه..
_ انتظر.. كله تراب.. أنضفه..

وأتركك.. وأدخل.. وأعود بملاءة صغيرة.. أفردها عليك..
وأسهر طول الليل بجوارك.. أجعل من بطن كفك مخدعى.. ووسادة لخدّى الأيمن.. وننام.. ننام.. وأنا ألعق أصابعك.. وأنفى يشم عطر تايورك الجينزى الأزرق..

◄◄◄
وتستيقظين..
_ ياحبيبى.. سنتأخر على العمل.. لدينا شغل كثير.. يالله نرجع لمصر.. ونصلى الفجر جماعة.. وننزل سريعًا.. ونكمل نومنا في أول قطار متجه للقاهرة.. العربات تكاد تكون فارغة.. إلا مِنّا و.. وحبنا..

رأسى على كتفك.. ويدك اليسرى في حضنى.. وعينى في المدى الأخضر.. عبر الشباك..
ويمرّ كمسارى القطار.. أنظر إليه.. وأشاور إلى وجود التذاكر في جيبى.. يومئ لى بأدب.. بعدما أرفع يدى اليسرى ليرى دبلتك.. تنفرج شفتاه.. ويتجاوزنا..

ونشترى فطار للزملاء في المكتب.. ويصل كل منا إلى حجرة مكتبه.. أنت بجوار السلم في مبنى جديد.. وأنا في آخر ممر.. أمام سلم في مبنى قديم.. كلانا أمام سلم قد صعده عشق الروح منذ ألف ألف عام حتى التقينا..!
ويبدأ الموظفون في الحضور..

وأتصل بك تليفونيا بمجرد ما أضأت النور وارتميْت على الكرسى..
ـ حبيبى..
_ الله.. وبعدين..!
ـ وحشتينى..؟
_ أرجوك يا (......)

أنا عندى شُغل..؟
ـ أعمل إيه..؟
كل ما أسمع صوتك أريد أن أكلّمك أكثر.. أن أقول لك شيئًا دائمًا..
مش عارف هوه إيه..؟

أشياء تختلف عن كل اللى بقولها لكل من حولى.. مش عارف بتجينى إزّاى..!
_ أنا مشغولة دلوقت.. أرجوك.. سيبنى دلوقت..؟
ـ إستنى..

أصل أنا نسيت حاجة مهمة قوى..؟
_ دوّر كويس..؟
ـ هِيّا أصلها مش أي حاجة..!
نسيت كُلّ حاجة.. وما أقدرش أعيش من غيرها..؟
_ وبعدين.. بلاش دلع..

أنا مشغولة.. والله مشغولة..!
قول على طول..!
ـ نسيتها معاكى إنت..؟
_ إنت ما دتنيش أي حاجة.. ولاسبت معاى حاجة..؟
ـ ياسلام..

وروحى اللى نسيتها معاكى..؟
_ وبعدين..؟
كده.. ربنا ح يزعل منك ومنى.. لضياع وقت عمل بناخد عليه أجر..؟
مش كِده ياللى بتحبّنى في الله.. واللا إيه..؟

ـ لا يا حبيبى..
سأعمل بعد الظهر.. ولن آخد أي أجر..؟
أو أقوم بمهمة خارجية بدون فلوس.. إيه رأيك..؟
بس خليكى معايا شوية..؟
_ طيّب ياسيدى..
ماروحك مع روحى..!
ـ لأ..!
أنا عاوز روحك هِيّا اللى تبقى مع روحى أنا..؟
_ أنت طمّاع.. وأنانى..!
وتضحك في رُقْىّ..!
ـ لو ما جبتيش.. وإدّتينى روحى ح آجى آخدها..!
_ يامجنون..!

ما إنت روحك اللى شقيّة.. أدّبها وخلّيها تِسْمع كلامك.. وماتروحش حِتّة إلا لما تقول لك..!
وماتهربش منك غصب عنك..!
إنت اللى ضعيف..!
ـ لا..!
مع روحك بَسّ ياحبيبتى..!
لأنى بَحْبّ أدلعها.. وأتدلل عليها.. وأدّلع بيها..!

ما إنْتِ عارفة إنّ روحى بتحبّك أكتر مِنْ نَفْسها.. وأكتر ما بتحبنى روحك.. وروحى دايْبة في روحك..!
_ إنْتّ في الحُبّ نِسيت يامؤلف.. إنّ المرأة لمّا تِسْمح لروحها يدوب فيها روح أخرى بشرع الله.. تبقى خلاص بقت هي وروحها حِتّة واحدة.. روح وروحك روح واحدة في الله..!
ـ طيّب ما يبقوا حِتّة واحدة معاية أنا..!

ليه يفضلوا.. ويبقوا معاكى إنت..!
_ إنتَ.. ح تفضل طفل كده طول عمرك..!
خلاص ياسيدى..
أوعدك لما نروح البيت.. ح أسيبها لك لغاية لما تزهق.. وأسيبها معاك لغاية بُكْرة..!
ونعمل جدول كُلّ واحد ياخدها يوم..؟

اتفقنا..؟
سيبنى بقى علشان عندى شغل..!
وبعدين لما أرجع تعبانة.. وماتعرفش تعيش حُبّى.. ولاتلهو وحنانى وشوقى.. تزعل وتِتْقِمص مِنّى زىّ طِفلى..؟
ويصمت..
ولم يغلق أحد التليفون..!

◄◄◄
وينظر عبر نافذة الزجاج التي خلف مكتبه.. وتطلّ على باب الشركة والشجرة التي كُلّ يوم تمرّ بجوارها..
ويعود لموسيقاه.. وورقة بيضاء على مكتبه مكتوب عليها عنوان.. كلمتان (عِشْق روحى )..
وينادى على عامل النظافة.. ويعطيه ظرف مغلق.. عليه اسمها ليسلمه لها.
ويصلها الظرف.. مكتوب اسمها على الوجه.. وتبتسم لمعرفة خطّه..

وتقرأ بداخله ورقة صغيرة مكتوب فيها..
ـ عِشْق روحى.. وحشتينى..
والله أكثر من وحشنى..
في كل ثانية بتوحشنى..

وبتوحشنى!

*****
(اهداء
حَبْيبى..
أعْرف أنّك تقرأني..
هلا في ليلة رأس السنة ( شويّة)..
(شويّة) تَعِش معى يوما في حُبّى.. وقد رحلت
ولا زلتَ حَيْاة حُلمى..)