رئيس التحرير
عصام كامل

تهلل أيها الأردن !!


ترك السيد المسيح الجليل متجهًا إلى الأردن، حيث يوحنا المعمدان الكاهن ابن الكاهن، ليعتمد منه (مت 3: 13) قاطعًا مسافة ليست بقليلة، وربما انتظر يوحنا هذا اللقاء منذ فترات، حيث "كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح" (لو 3: 15) فأجابهم يوحنا إن الذي يأتي بعده هو أقوى منه.. منتظرًا هذا اللقاء بشغف.. عجبًا فقد اعتمد الآلاف ولم يكن الروح ينزل عليهم، وصعد الكثيرون وظلت الأمور طبيعية، ولهذا اشتد اشتياق المعمدان وحتمًا كان اشتاق الأردن إلى خالقه مثل اشتياق يوحنا هذا الذي رقد قبلا للمسيح –تبارك اسمه- وهو في بطن إليصابات..


حتمًا عندما اقترب السيد المسيح من النهر تهلل الأردن، وابتهجت مياؤه وفاض نبعه واضطرم اشتياقه أكثر ليعلن ليوحنا أن القدوس قادم، فصرخ يوحنا في الجموع ليبعد كل واحد نفسه، ليشير على الحمل الحقيقي متكلمًا واصفًا بحرارة أنه هذا هو الذي يحمل خطيئة العالم كله.. 

وفي منظر مهيب جدًا حتما ارتجفت له عظام يوحنا من اقتراب القدوس الأزلي منه عندما سأله أن يعتمد. فأجاب يوحنا في وداعة: ربي.. أنا نائب عنك، وليست الرئاسة مُلكي، فأنت وحدك القدوس ورئيس كهنتنا الأعظم.. كيف لي وأنا لا أستحق أن أحل سيور حذائك.. وربما أيضًا فكر سرًا: كيف للهباء أن يضع يده على لهيب النار.. كيف للقش أن يلقي يده على الجمرة.. ربي النهر بجانبي يغلي حبًا، وتكاد مياؤه تبلعني فكيف لي أن أتجاسر لأضع يدي!. 

وفي هذا ربما أراد أيضًا أحد الملائكة والطغمات النورانية الواقفة حول القدوس أن يجيب على يوحنا: إن كان يجب عليك يا يوحنا أن تمنع –تبارك اسمه- من المعمودية فكان لنا أن نتوسل اليه ألا ينزل إلى صورة الناس، متشبهًا بهم، واضعًا ذاته، آخذًا صورة عبد (القداس الغريغورى).. إن كان لك يا يوحنا أن تُجنبه الأقماط البسيطة لئلا يتقمط بها فكان علينا أن نتوسل إليه أن تكون ولادته تليق بمُلكه الأبدي وأزليته.. 

وأيضًا ربما ناجى المسبيين في أسافل الأرض يوحنا قائلين: لماذا يا يوحنا؟!.. اتركه يستمر في دربه فنحن عطاشى إليه.. اُصمت يا يوحنا فأنت لن تصنع له إضافة، هو –تبارك اسمه– سيجعل المعمودية مخزنا للسلاح، ولو لم يدخل إليه أحد ويلبس منه سلاحًا لن يستطيع أن يحارب.. ستصير المعمودية به بطن تحبل وتلد أبناء روحيين.. فقطعه صوت البهي في رفق وقال له: "اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر حينئذ سمح له" (مت 3: 15) 

نزل كلي القداسة إلى المياه ليعتمد فأشتعلت المياه ببروق اللهيب، وبينما كان يعتمد كانت تغتسل مياه الأردن في طُهره.. حتمًا خرج وقتها ضباب وأحاط النهر بألوان عجيبة وشق السماء صوت الآب معلنًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. وحلق ونزل واستقر روحه القدوس بشبه جسم الحمامة على الابن المتجسد لينسج هنا ويضع عشه في المعمودية. نفض جسد الإله قطرات الأردن وهو صاعد من بين حضن المياه وفي حضن كلمات الآب إلتحف كابن حبيب وحيد ليس فيه من سراب..

لقد ربط معلمنا بطرس الرسول بين المعمودية والقيامة، لأن المعمودية فيها موت وقيامة مستخدمًا قصة الطوفان (من رموز المعمودية في العهد القديم). إذ قال: "خَلَص قليلون، أي ثمانى أنفس بالماء"، فهم خلصوا من الماء. الفلك نجاهم من الغرق (الذي فيه) والماء نجاهم من الشر (خلص... بالماء) الماء غسل الدنيا من الشر والخطية. وفى المعمودية نغسل من الشر وننجو بالفلك.. "أنتم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح" (غل3: 27)، هذا هو الفلك الجديد الذي هو المسيح. الذي نلبسه في المعمودية. والذي هو خارج المسيح يغرق في الماء. أي الإنسان العتيق.

إنها المعمودية التي تعطي كل من اقترب منها ثياب النور ليتوشح بها.. إنها النبع التي يقف أمام جرنها الكهنة وأحبار الأرض ليهبوا بسلطانهم.. إنها الأم الجديدة التي تأخذ الشيوخ وتحبل بهم ليصيروا ابناءًا لله.. فنحن ترابيون وأبناء الموت ولكن من عندها نصير ابناء الله.. بدونها كيف ندعو الله أبانا السماوي ؟!.. فالقديسة الطاهرة العذراء مريم اعطت جسدها للكلمة حتى يتجسد، وايضًا المعمودية اعطتنا روحه القدوس حتى نتجدد.. 

فتعال يا داود في وسطنا اليوم لتنطق بكرامة هذا العيد: صوت الرب على المياه الرب على المياه إله المجد أرعد.. البحر رأى فهرب والأردن رجع إلى خلف مالك أيها البحر هربت أثبت لكى تتبارك. هوذا المياه قد رأت الخالق الجابل فخافت وأدركها الأضطراب والحيرة.. (ذكصولوجية عيد الغطاس).

حقًا نستطيع أن ندرك مدى اهتمام الكنيسة بالمعموديّة من كلمات القديس جيروم: "لم يكرز المخلّص نفسه بملكوت السماوات إلاّ بعد تقديسه الأردن بتغطيسه في العماد".
الجريدة الرسمية