رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄56


احتفاءً واحتفالاً بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا، صلى الله عليه وسلم.. مازلنا نتابع القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...



◄◄◄ ومتابعة لما سبق...

وذكر البيهقي، من حديث موسى بن عُبيدة الرّبَذِي، عن صدقة بن يسار، عن ابنِ عمر، قال: أُنْزِلَتْ هَذِه السُّورَةُ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ} [النصر: 1]، على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيَّامِ التشريقِ، وعُرِفَ أنه الوداعُ، فأمر براحلته القَصْواء، فَرُحِلَتْ، واجتمع الناسُ فقال: (يا أيها النَّاسُ)... ثم ذكر الحديث في خطبته.




◄ في ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم البيتوتة خارج مِنَى لمن له عذر
واستأذنه العباسُ بنُ عبد المطلب أن يَبيت بمكة ليالي مِنَى مِن أجل سقايته، فأذن له.. واستأذنه رِعاءُ الإبِلِ في البيتوتة خارِجَ مِنَى عند الإبل، فأرخص لهم أن يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رمىَ يومين بَعْدَ يوم النحر يرمُونَه في أحدهما.

قال مالك: ظننتُ أنه قال: في أول يوم منهما، ثم يرمُون يومَ النَّفْرِ.

وقال ابنُ عيينة: في هذا الحديث رخَّص للرِّعاء أن يرموا يومًا، ويَدَعوا يومًا فيجوز لِلطَّائفتين بالسُّنَّة تركُ المبيت بمِنَى، وأما الرمي، فإنهم لا يتركُونه، بل لهم أن يُؤخِّروه إلى الليل، فيرمُون فيه، ولهم أن يجمعوا رمىَ يومين في يوم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رخَّصَ لأهل السقاية، وللرِّعاء في البيتوتة، فمَن له مال يخافُ ضياعه، أو مريض يَخافُ مِن تخلُّفه عنه، أو كان مريضًا لا تمكنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النص على هؤلاء، والله أعلم.



◄ في أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين بل تأخر حتى أكمل رمى أيام التشريق الثلاثة
 ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتَّى أكمل رمىَ أيامِ التشريق الثلاثَةَ، وأفاض يومَ الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّبِ، وهو الأبطح، وهو خَيْف بنى كِنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قُبَةً هناك، وكان على ثَقَلِه توفيقًا مِن الله عَزَّ وجَلَّ، دون أن يأمرَه به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فصلَّى الظُّهر، والعصرَ، والمغربَ، والعِشاء، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلًا سحرًا، ولم يَرْمُلْ في هذا الطَّوافِ، وأخبرته صفية أنها حائض، فقال: (أحَابِسَتُنا هي)؟ 



فقالُوا له: إنها قَدْ أَفَاضَتْ قال: (فَلْتَنْفِرْ إذًا). ورَغِبَتْ إليه عائشةُ تلك الليلة أن يُعْمِرَها عُمرةً مفردَة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأَ عن حجِّها وعُمرتها، فأبت إلا أن تعتمِرَ عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرَها مِن التنعيم، فَفَرَغَتْ مِن عُمرتها لَيلًا ثمَّ وافَتِ المُحَصَّبَ مَعَ أخيها، فأتيا في جَوْفِ الليلِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (فَرَغْتُمَا)؟ قالت: نَعَمْ، فنادي بالرَّحِيل في أصحابه، فارتحلَ الناسُ، ثم طافَ بالبيت قبلَ صَلاةَ الصُّبح هذا لفظ البخاري.



 فإن قيل: كيف تجمعون بين هذا، وبين حديث الأسود عنها الذي في (الصحيح) أيضًا؟ قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم نَرَ إلا الحَجَّ.... فذكرتِ الحديثَ، وفيه: فلما كانت ليلة الحَصْبَةِ، قلتُ: يا رسول الله؛ يرجعُ النَّاس بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأَرْجعُ أَنا بِحَجَّةٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا كُنْتِ طُفْتِ لَيَالي قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: (فاذْهَبي مَعَ أخِيكِ إلَى التَّنْعِيم، فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا)  قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَقِيني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وأَنَا مُنْهَبطَةٌ عَلَيْهَا، أوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا.



ففي هذا الحديث، أنهما تلاقيا في الطَّريق، وفي الأول، أنه انتظرها في منزله، فلما جاءت نادي بالرحيلِ في أصحابه، ثم فيه إشكالٌ آخر، وهو قولُها: لقيني وهو مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وأَنَا مُنْهَبطَة عليها، أو بالعكس، فإن كانَ الأول، فيكون قد لقيها مُصعِدًا منها راجعًا إلى المدينة، وهي منهبطة عليها للعُمرة، وهذا يُنَافى انتظاره لها بالمحصَّب.



قال أبو محمد بن حزم: الصوابُ الذي لا شك فيه، أنها كانت مُصْعِدَةً مِنْ مَكَّة، وهو منهبِط، لأنها تقدَّمت إلى العُمرة، وانتظرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت، ثم نهضَ إلى طواف الوَداع، فلقيها منصرِفة إلى المحصَّبِ عن مكة، وهذا لا يصح، فإنها قالت: وهو منهبط منها، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصَّب، والخروج من مكة، فكيف يقول أبو محمد: إنه نهض إلى طواف الوَداع وهو منهبط مِن مكة؟ هذا محال. وأبو محمد لم يحج، وحديث القاسم عنها صريح كما تقدَّم في أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم انتظرها في منزله بعد النَّفْرِ حتى جاءت، فارتحل، وأذَّن في الناسِ بالرحيل، فإن كان حديثُ الأسود هذا محفوظًا، فصوابُه: لقيني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مُصعِدة من مكة، وهو منهبط إليها، فإنها طافت وقضت عُمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته قد أخذ في الهُبوط إلى مكَّة للوداع، فارتحل، وأذَّن في النَّاسِ بالرحيل، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا. وقد جُمِعَ بينهما بجمعين آخرين، وهما وهم.



 أحدهما: أنه طاف للوداع مرتين: مرةً بعد أن بعثها، وقبل فراغها، ومرة بعد فراغها للوداع، وهذا مع أنه وَهمٌ بيِّن، فإنه لا يرفع الإشكال، بل يزيده فتأمله.


 الثاني: أنه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة خوفَ المشقة على المسلمين في التحصيب، فَلَقِيَتْهُ وهي منهبطة إلى مكة، وهو مصعد إلى العَقبة، وهذا أقبحُ من الأول، لأنه- صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من العقبة أصلًا، وإنما خرج من أسفل مكة من الثَّنِيَّةِ السُّفلى بالاتفاق. وأيضًا: فعلى تقدير ذلك، لا يحصُل الجمع بين الحديثين.


 وذكر أبو محمد بن حزم، أنه رجع بعد خروجه مِن أسفل مكة إلى المحصَّب، وأمر بالرحيل، وهذا وهم أيضًا، لم يَرجعْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وداعه إلى المحصَّب، وإنما مرَّ مِن فوره إلى المدينة.


 وذكر في بعض تآليفه، أنه فعل ذلك، ليكون كالمحلِّق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه، فإنه بات بذي طُوى، ثم دخل من أعلى مكة، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب، ويكون هذا الرجوعُ من يماني مكة حتى تحصُل الدائرةُ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاء، نزل بذي طُوى، ثم أتى مكَّة مِن كَدَاء، ثم نزل به لما فرغ من الطواف، ثم لما فرغ من جميع النُّسُكِ، نزل به، ثم خرج من أسفل مَكَّة وأخذ من يمينها حتى أتى المحصَّب، ويحمل أمرُه بالرحيل ثانيًا على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصِّب قومًا لم يرحلوا، فأمرهم بالرحيل، وتوجه مِن فوره ذلك إلى المدينة.



ولقد شان أبومحمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يُضحَك منه، ولولا التنبيهُ على أغلاط من غِلَطَ عليه - صلى الله عليه وسلم - لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام. والذي كأنك تراه مِن فعله أنه نزل بالمحصَّب، وصلَّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، ورقد رقدةً، ثم نهض إلى مكة، وطاف بها طواف الوداع ليلًا، ثم خرج مِن أسفلها إلى المدينة، ولم يرجعْ إلى المحصَّب، ولا دار دائرة، ففي (صحيح البخاري): عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلَّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ورقد رَقدة بالمحصَّب، ثم ركب إلى البيت، وطاف به.



وفي (الصحيحين): عن عائشة: خرجنا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذكرتِ الحديثَ، ثم قالت: حِين قضى الله الحجَّ، ونَفَرْنَا مِن مِنَى، فنزلنا بالمحصَّب، فَدَعَا عبد الرحمنِ بنَ أبى بكر فقال له: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحرَمَ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُما، ثُمَّ ائتِيَانِي هاهنا بِالمُحَصَّب). قالَتْ فَقَضَى الله العُمْرَةَ، وفرغنا مِنْ طَوَافِنَا في جَوْفِ اللَّيْلِ، فأتيناه بالمُحَصَّبِ. فَقَالَ: (فَرغْتُمَا)؟ قُلنَا: نَعَمْ. فَأَذَّنَ في النَّاسِ بالرَّحِيل، فَمَرَّ بِالبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، ثُمَّ ارتَحَلَ مُتَوَجِّهًا إلى المَدِينَةِ.


 فهذا من أصح حديث على وجه الأرض، وأدلِّه على فساد ما ذكره ابنُ حزم، وغيرُه مِن تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها، ودليل على أن حديثَ الأسود غيرُ محفوظ، وإن كان محفوظًا، فلا وجه له غير ما ذكرنا وب الله التوفيق.



 وقد اختلف السَلَفُ في التحصيب هل هو سُنَّة، أو منزل اتفاق؟ على قولين. فقالت طائفة: هو من سنن الحج، فإن في (الصحيحين) عن أبى هريرة، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن يَنفِرَ مِنْ مِنَى: (نَحْنُ نَازِلُون غَدًا إن شَاءَ الله بِخَيْفِ بنى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلى الكُفْر). يعنى بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشًا وبنى كنانة، تقاسَموا على بنى هاشم، وبنى المطَّلِب، ألاَّ يُناكحوهم، ولا يكونَ بينهم وبينهم شيءٌ حتى يُسلموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقصدَ النبي صلى الله عليه وسلم إظهارَ شعائِرِ الإسلام في المكان الذي أظهرُوا فيه شعائِر الكُفر، والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه، أن يُقيم شِعارَ التَّوحيد في مواضع شَعائِر الكُفر والشِّرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنَى مسجدُ الطَّائِفِ مَوْضِعَ اللاَّت والعُزَّى.



 قالوا: وفي (صحيح مسلم): عن ابن عمر، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، كانوا ينزلونه. وفي رواية لمسلم، عنه: أنه كان يرى التَّحصِيبَ سُنَّةٌ.


 وقال البخاري عن ابن عمر: كان يُصَلِّى به الظهرَ، والعصرَ، والمغرب، والعشاء، ويَهْجَعُ، ويذكر أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.


 وذهب آخرون - منهم ابنُ عباس، وعائشةُ - إلى أنه ليس بِسُّنَّة، وإنما هو منزل اتفاق، ففي (الصحيحين): عن ابن عباس، لَيْسَ المُحَصَّبُ بِشَيءٍ، وإنَّما هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ.



وفي (صحيح مسلم): عن أبي رافع، لم يأمُرْني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أنزلَ بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربتُ قُبَّتَه، ثم جاء فنزل. فأنزله الله فيه بتوفيقه، تصديقًا لقول رسوله: (نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بنى كِنَانَة)، وتَنْفِيذًا لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، ومَوَافَقَةً مِنْهُ لِرَسُولِه صلوات الله وسلامه عليه.




◄في دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة
هاهنا ثلاثُ مسائل: هل دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيت في حَجَّته، أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع، أم لا؟ وهل صَلَّى الصُّبح ليلةَ الوَداع بمكة، أو خارجًا منها؟



 فأما المسألة الأولى، فزعم كثيرٌ من الفقهاء وغيرهم، أنه دخل البيت في حَجَّتِه، ويرى كثيرٌ من الناس أن دخولَ البيتِ مِنْ سُنن الحج اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. والذي تَدُلُّ عليه سُنَّتُه، أنه لم يَدْخُلِ البيتَ في حَجته ولا في عُمرته، وإنما دخله عام الفتح، ففي (الصحيحين) عن ابن عمر قال: دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأُسامة، حتى أناخَ بفناء الكعبة، فدعا عُثمان بن طلحة بالمفتاح، فجاءه به، ففتح، فدخلَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامةُ، وبلالٌ، وعثمانُ بن طلحة، فأجافُوا عليهم الباب مَلِيًّا، ثم فتحوه. قال عبد الله: فبادرتُ الناس، فوجدتُ بلالًا على الباب. فقلت: أين صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدَّمين. قال: ونسيتُ أن أسأله، كمْ صلَّى.



وفي(صحيح البخاري) عن ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، لما قَدم مكة، أبى أن يَدْخُلَ البيتَ وفيه الآلِهَة، قال: فأمر بِهَا فَأُخْرِجَت، فأخَرجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وإسماعيلَ في أيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (قَاتَلَهُمُ الله، أَمَا والله لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِما بِها قَطُّ). قال: فَدَخَلَ البَيْتَ، فكَبَّرَ في نَوَاحِيه، ولم يُصَلِّ فِيهِ.


 فقيل: كان ذلك دُخولين، صلَّى في أحدهما، ولم يُصلِّ في الآخر. وهذه طريقةُ ضعفاء النقد، كلما رأوْا اختلافَ لفظ، جعلُوه قِصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مِرارًا لاختلاف ألفاظه، وجَعَلُوا اشتراءَه مِن جابر بَعيرَه مِرارًا لاختلاف ألفاظِه، وجعلوا طوافَ الوَداع مرَّتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك.



 وأما الجهابذة النُّقاد، فيرغبُون عن هذه الطريقةِ، ولا يجبُُنُون عن تغليط مَنْ ليس معصومًا مِن الغَلَطِ ونسبته إلى الوهم، قال البخاري وغيرُه من الأئمة: والقولُ قولُ بلال، لأنه مثبت شاهدَ صلاته، بخلاف ابن عباس. والمقصود: أن دخوله البيت إنما كان في غزوةِ الفتح، لا في حَجَّهِ ولا عُمَرِهِ، وفي (صحيح البخاري)، عن إسماعيل بن أبى خالد، قال: قلتُ لعبد الله بن أبى أوفى: أدخلَ النبي صلى الله عليه وسلم في عُمْرَتِهِ البَيْتَ؟ قال: لا.


 
وقالت عائشةُ: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن عندي وهو قَرِيرُ العَيْنِ، طيِّبُ النَّفْسِ، ثم رجع إلىَّ وهو حزينُ القلب، فقلتُ: يا رَسُولَ الله؛ خرجتَ من عندي وأنتَ كذا وكذا. فقال:(إني دخلتُ الكعبة، وَوَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ، إنِّى أَخَافُ أَنْ أَكونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتي مِنْ بَعْدِى)، فهذا ليس فيه أنه كان في حَجته، بل إذا تأملتَهُ حقَّ التأمُّلِ، أطلعَكَ التَّأمُّلُّ على أنه كان في غَزاة الفتح، و الله أعلم، وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تُصَلِّى في الحِجْرِ رَكْعَتَيْنِ.



◄ في وقوفه صلى الله عليه وسلم في الملتزم
وأما المسألة الثانية: وهي وقوفُه في الملتزم، فالذي روى عنه، أنه فعله يوم الفتح، ففي سنن أبى داود، عن عبد الرحمن بن أبى صفوان، قال: (لما فتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، انطلقتُ، فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَد خَرَجَ مِنَ الكَعْبَةِ هُوَ وأَصْحَابُه وقد استلَمُوا الرُّكْنَ مِنَ البَابِ إلى الحَطِيم، وَوَضَعُوا خُدُودَهُم على البَيْتِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَسطَهُم).



 وروى أبو داود أيضًا: مِن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: (طُفْتُ مَعَ عبد الله، فَلَّما حَاذَى دُبُرَ الكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوّذُ؟ قال: نَعُوذُ بـالله مِنَ النار، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالبَابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِراعَيْهِ هَكَذا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، وقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ).



فهذا يحتمِل أن يكونَ في وقت الوداع، وأن يكونَ في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرُهما: إنه يُستحَب أن يَقِفَ في الملتزم بعد طواف الوَداع ويدعو، وكان ابنُ عباس رضى الله عنهما يلتزِمُ ما بين الرُّكن والبَابِ، وكان يقول: لا يلتزمُ ما بينهما أحدٌ يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إيَّاه، والله أعلم...
الجريدة الرسمية