رئيس التحرير
عصام كامل

ميلاد عوض يكتب: السياسة النقدية وتأثيرها على الإصلاح الاقتصادي


السياسة النقدية أحد أهـم عناصر منظومة السياسات الاقتصادية التي يمكن استخدامها لتحقيق الأهداف الاقتصادية للمجتمع، وتستهدف السياسة النقدية بالدرجة الأولى التأثير على العرض النقدي، وأسعار الفائدة، والتي تؤثر بدورها على مستوى الأداء الاقتصادي بشكل عـام.


من هنا نجد أن السياسة النقدية هي الإجراءات والتدابير التي تتخذها السلطات النقدية المتمثلة في البنك المركزي، والتي تضمن التسيير الأمثل للمعروض النقدي المتداول في الاقتصاد، من خلال استخدام عدة وسائل وأدوات، تضمن نقل أثر السياسة النقدية عبر كافة القطاعات الاقتصادية، سواء تعلق الأمر بمعالجة الاختلالات التي تحدث تأثرًا بالظروف الاقتصادية أو حتى تحسين الظروف والأوضاع والمؤشرات التي تدل على مستوى رفاهية الاقتصاد، ومحاولة الحفاظ على هذه المستويات عند حدودها الطبيعية، بما يعرف بالاستقرار الاقتصادي.

وتسعى السياسة النقدية دوما إلى بلوغ الأهداف العامة أو النهائية، التي تسعى لها دوما السياسة الاقتصادية العامة، وذلك نظرا لاعتبار الأهداف العامة تمثل أداة أو وسيلة من الوسائل الأساسية للسياسة الاقتصادية في أي اقتصاد.

وبلوغ تلك الأهداف النهائية لن يتأتّى إلا من خلال المرور بأهداف وسيطية تعتبر حلقة الوصل لتحقيق الأهداف النهائية، التي قد تختلف من دولة إلى أخرى لعدة اعتبارات.

وتستهدف السياسة النقدية بالدرجة الأولى التأثير على كمية النقود المتداولة في الاقتصاد (تنظيم وتسيير العرض النقدي) ومعدلات الفائدة، وهي تؤثر على مستوى الأداء الاقتصادي بشكل عام، وتسعى السياسة النقدية إلى ضمان التوازن الاقتصادي العام، بشطريه التوازن الاقتصادي الداخلي والخارجي.
فالتوازن الاقتصادي الداخلي يتحقق نتيجة ضمان استقرار المستويات العامة للأسعار (محاربة التضخم)، وزيادة نسبة التشغيل (محاربة البطالة) وتحقيق (النمو الاقتصادي)، أما التوازن الخارجي فيتمثل في توازن (ميزان المدفوعات) من خلال ضمان استقرار قيمة العملة الوطنية بالمقارنة مع نظيراتها الأجنبية ومحاولة تحقيق التوازن في الميزان التجاري، المالي والرأسمالي، وهذه الأهداف النهائية الأربعة تعرف بأهداف المربع السحري والتي عرفها الاقتصادي الإنجليزي ''نيكولا كالدور''.

وعلى العموم نجد أن السلطات النقدية في أي دولة تعتمد على وضع ورسم إستراتيجية نقدية خاصة، قد تبدي عليها بعض التعديلات من فترة لأخرى، نظرا لبعض الاختلالات المسجلة لبعض المؤشرات الاقتصادية، إذن يتعيّن على البنك المركزي وضع مجموعة من الأهداف الواجب بلوغها يتقدمها التركيز على هدف معين كونه أهم هدف ينبغي استهدافه أولا، وعامة نجد أن استقرار المستويات العامة للأسعار يمثل الهدف المشترك في أغلب الدول.

مما سبق نجد أن رسم السياسة النقدية لتحقيق الأهداف الاقتصادية (النهائية) ليس أمرا سهلا، وإنما يحتاج منذ البداية إلى دراية واسعة بالأدوات وكفاءة عالية في استخدامها لتحقيق هذه الأهداف، مع التأكيد على أن تحقيق أي هدف من الأهداف لا يضرّ ضررا بالغا بغيره من الأهداف.

وتظهر القوة الأساسية للسلطة النقدية الممثلة بالبنك المركزي في قدرتها على زيادة أو إنقاص حجم النقود لدى الجهاز المصرفي، وكذلك في المجتمع، وذلك عن طريق الإعتماد على مختلف الأدوات والوسائل والأساليب الفنية للسياسة النقدية.

وتتمثل هذه الأدوات في الرقابة الغير مباشرة والرقابة المباشرة الكمية والرقابة المباشرة الكيفية والوسائل الأخرى التي يمكن أن تلجــأ لها السلطات النقدية، والتي تشكل في مجموعـها موضــــوع السياسة النقدية.
- الرقـــابة غير المباشرة: وتتمثل في الأدوات والوسائل التي تمكن السلطات النقدية من مراقبة تطور الأوضاع النقدية والاقتصادية عامة وذلك بصفة غير مباشرة، وتهدف في مجملها إلى التأثير على كمية أو حجم الائتمان بصرف النظر عن وجوه الاستخدام الأمثل التي يراد توجيهه إليها.

ويتخذ هذا النوع من الرقابة سبيله إلى ذلك عن طريق التأثير على جملة الإحتياطات النقدية المتوافرة لدى النظام المصرفي مع ما يترتب على ذلك من التأثير بطريق غير مباشر على الحجم الكلي لقروض البنوك واستثماراتها.

وتعتمد هذه الطريقة على الأدوات التقليدية للسياسة النقدية وهي تشمل سعر الخصم (سعر البنك)، نسبة الاحتياطي النقدي القانوني (الإلزامي) وعمليات السوق المفتوحة.

- الرقــابة المباشـرة (الكمية والنوعية): لقـد برز هذا النوع من الرقابة على الائتمان خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، حيث رمت إلى التدخل المباشر للسلطات النقدية في تحديد حجم الائتمان وتوجيهه حسب الأستخدامات المختلفة عن طريق تصعيب الحصول عليه، وأدوات الرقابة المباشرة تتميز عن سابقتها كونها موجهة نحو استخدامات معينة للائتمان وليس نحو الحجم الكلي للائتمان.

وفي الحقيقة، إن هذه الأساليب المعتمدة في الرقابة المباشرة على الائتمان إنّما وضعت بقصد التّـأثير على قطاعات معينة من الاقتصـاد الوطني دون التّـأثير على بقية القطاعـات.

وتتضمن وسائل الرقابة المباشرة مجموعة من الإجراءات التي تتّخذها السلطات النقدية لغرض تشجيع أنواع معينة من الإنفاق أو الاستثمارات المنتجة وتوجيه تدفق الائتمان إليها وإحداث التوسع المرغوب فيها، أو وقف التوسع المغالي فيه وغير المرغوب في أنواع أخرى من الاستخدامات عن طريق التأثير المباشر على الائتمان المصرفي، أي على سياسة الإقراض التي تنتهجها البنوك وغيرها من المؤسسات المالية الوسيطية، وهكذا نجد أن الأدوات المباشرة للسياسة النقدية لها تأثيرها المباشر على المقرض والمقترض في آن واحد، فهي تمارس تـأثيرا نوعيـا وكميـا على مستوى طلب القروض وكذلك على مستوى قدرة المؤسسات المالية على الإقراض.

الفـرق بين الأدوات المباشرة وغير المباشرة هي التحول من التحكم المباشر إلى التحكم غير المباشر في السياسة النقدية يأتي مسايرا للاتجاه العام نحو الإعتمـاد المتزايد على قوى السـوق (قانون العرض والطلب) في تسيير عجلة الاقتصــاد، ونحو تخفيف أو إزالة القيود والتحرير لكافة الأدوات والسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، والابتعاد عن أسلوب التوجيهات والقرارات الإدارية التحكمية.

ومن أجل تحديد الفرق بين النوعين يستوجب علينا التعرض لفعالية كل نوع من أنواع الرقابة وقدرتها على تحقيق أهداف السياسة النقدية في أقل وقت وتكلفة ممكنتين، وهذه التكلفة التي لا تكون مادية، إذ يمكن أن تكون معنوية من خلال المساس بهيبة أو توازن الهيكل الإداري للمؤسسات النقدية.

وتكون الرقابة غير المباشرة من خلال:
- حفاظ البنك المركزي على هيبته ومكانته كأعلى هيئة وسلطة نقدية في البلاد وذلك من خلال الاتصال الغير مباشر بالبنوك التجارية.
- التسيير المحكم للائتمان كمّــا ونوعـــا حسب الوضعية الاقتصادية، سواء في فترة الكساد أو في حالة الرفاهية المفرطة (التضخم).
- يبقى البنك المركزي بعيدا عن التدخل المباشر والتّحكمي في عمل قوى السوق، في نفس الوقت الذي يمكنه من التحكم فيه عن بعد وبصورة غير مباشرة.
- تحفيز وزيادة حدة التنافس في تحديد الأسعار وتطوير السوق النقدي.
- تضمن التكيف السريع والتعديل المباشر والتلقائي وفقا لتغير ظروف السوق، ومن ثم تقلل من حجم المخاطر التي كان يمكن أن تنتج للاضطرار إلى الاستمرار في سياسة خاطئة.
- تضمن التوزيع الأمثل للأموال والائتمان القائم على أساس التكلفة والعائد والمخاطرة النسبية.
- يساعد على إيضاح الأوضاع السائدة وشفافيتها في السوق النقدي، ويعكس بوضوح وبشكل فوري مواطن الضغط في هذا السوق.

أما الرقابة المباشرة من خلال:
- خفض المنافسة المصرفية بين البنوك نتيجة الإفراط في تحديد نشاطها من خلال السقوف والمؤشرات الواجب احترامها، وهذا من شأنه معاقبة وردع نشاط البنوك التي تتسم بالحيوية والفعالية.
- الإضرار بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكثر من الشركات الكبرى، كون هذه الأخيرة بإمكانها القيام بإقراض السيولة الزائدة لديها إلى مؤسسات أخرى بفوائد أعلى.
- انعدام مرونتها ومحدودية فاعليتها نظرا لصعوبة تعديلها وفقا لتغير الظروف، وانحسار تطبيقها على شرائح أو قطاعات محدودة من النظام المالي ككل.
- تؤدي لبروز مشكلات إدارية نتيجة التمييز بين القطاعات والأساس الذي يتم وفقه تحديد القطاع الأساسي من غيره، وهذا ما يؤدي إلى تجاوزات يصعب الفصل فيها.
- انعدام الضمانات الكفيلة بكون التسهيلات الائتمانية المقدمة لبعض القطاعـات سوف تستخـدم للأغراض المحددة لها. حيث أن المقترضين بإمكانهم استخدام تلك القروض في أغراض أخرى.

قد يؤدي استخدام هذه الأساليب إلى عدم الكفاءة في تخصيص الموارد نتيجة التمييز غير العقلاني بين القطاعات، بتمكين قطاعات معينة ليست بالضرورة هي الأحسن كفاءة من التسهيلات الائتمانية.

وما يجب تأكيده أن البنك المركزي يمثل المحور الرئيسي للقطاع المصرفي، وزيادة قدرته على المنافسة والتطور، وذلك لما يؤديه من دور في إرساء السياسة النقدية، مما يزيد من درجة المناداة إلى استقلالية أكبر للسلطات النقدية عن السلطات السياسية في البلاد، من ناحية رسم السياسة النقدية وتحديد الأهداف حسب الأولويات الممكنة، بعيدا عن أية ضغوط أو خلفيات أخرى، لذا يقع على عاتق البنك المركزي في هذه الحالة مهمة الحفاظ على الاستقرار المالي وبالتالي إرساء أسس نمو اقتصادي قابل للاستمرار.
الجريدة الرسمية