رئيس التحرير
عصام كامل

أيام الزمن الجميل


تخرجت في جامعة أسيوط في يونيو عام ١٩٦٤، وتم تكليفي معيدًا في قسم الجيولوجيا بكلية العلوم في ٢ سبتمبر من العام نفسه.. في العام الدراسى ١٩٦٦/ ١٩٦٧، وفى أحـد الـدروس العملية لطلبة السنة الأولى، جاءتني طالبتان يستفسـران عن مسالة مرتبطة بموضوع الدرس.. كانت إحداهما كثيرة الكلام والحركة، سألتها: من أين أنت؟ قالت: من قرية أسطال.. مـركز سمالوط بمحافظة المنيا.. قلت مداعبًا: وهل هذه القرية موجودة على خريطة مصر؟! ردت بشيء من الزهـو والفخر: بلد المشير.. تقصد المشير عبد الحكيم عامر..


فجأة وعلى غير توقع، تدخلت الطالبة الثانية وقالت: "تتعشى واللا تنام خفيف"؟! كان من الواضح أنها تريد جذب انتباهي إليها، على اعتبار أني من أهل دمياط.. ابتسمت مندهشا ومتعجبا، وقلت: وأنت.. من أين؟ أجابت: من بورسعيد.. قلت: نحن جيران، إذن.. وانتهى الموقف عند هذا الحد، أو هكذا تصورت.. لكن هذه المداخلة ظلت عالقة في الذهن.. كنت في الـــ ٢٣ من عمري، ولم أكن قد فكرت في الزواج بعد.. وكانت صاحبة المداخلة تطل على فكري من حين لآخر..

وفي لحظة ما، وجدتنى أقول لنفسي: ما المانع أن تكون هذه الطالبة زوجة لك؟ ومع الوقت سيطرت الفكرة على عقلي وقلبي، وهو ما جعلني أتخذ قرارًا بالتحدث إليها ومصارحتها.. في مارس عام ١٩٦٨، حصلت على درجة الماجستير، وفوجئت بها تأتي إلى مكتبي، هي وصاحبتها، لأشرح لهما أجزاء في أحد مقررات علم الجيولوجيا.. وجدتها فرصة.. وعندما خلا المكان إلا منا، تحدثت معها في الأمر، فوجدت قبولا وإقبالا، وفي لحظات تم الاتفاق على أن أتقدم لوالدها في الإجازة الصيفية..

وفي أوائل سبتمبر من ذلك العام، سافرت إلى بورسعيد، والتقيت أسرتها.. تكلمت مع والدها طويلا، وأخبرته بكل أحوالى وأنى أبدأ حياتي من الصفر، وليس لى سوى راتبى (٣٠ جنيهًا في ذلك الوقت)، فكان رده: أنا أريد تزويج ابنتي لرجل.. وفي ١٠/ ٩/ ١٩٦٨، عقد القران بحضور العائلتين.. وتم الزفاف بعدها بوقت قصير، في ٢٩/ ١١/ ١٩٦٨.. كانت الزوجة آنذاك طالبة في السنة الثالثة، قسم كيمياء وجيولوجيا.. لذا حملت عنها عبء إعداد طعام الإفطار، والغداء، والعشاء؛ فضلا عن شرح ما غمض عليها من مقررات الجيولوجيا.. عقب تخرجها في يونيو ١٩٧٠، فضلنا إلا تعمل، وأن تصبح ربة بيت..

كانت حياتنا بسيطة للغاية، فالراتب يكاد يكفي إيجار الشقة والطعام، وغير ذلك من أمور، فضلا عن تكاليف الإعداد لدرجة الدكتوراه.. لم أرها يوما تضيق أو تتبرم، كانت صابرة ومحتسبة.. في السنوات الأولى، لم نكن نذوق اللحم إلا مرة واحدة في الشهر، بالرغم من أن كيلو اللحم في الجمعية التعاونية أيامها بنحو ٤٢ قرشًا.. ومضت بنا الحياة بحلوها ومرها، فأنجبت ابنتنا إيمان عام ١٩٧١، ثم دينا عام ١٩٧٣، ونهى عام ١٩٧٥، ودعاء عام ١٩٧٧، وفى عام ١٩٨٠ وضعت توءما هما عمر وعبد الرحمن.. كانت هي الراعية لشئون البيت، والأولاد، والزوج..

كبر الأولاد، وصار لكل منهم حياته واهتماماته، وأصبح لدينا الآن ١٥ حفيدًا، ولله الفضل والمنة.. أنظر اليوم خلفى لهذا التاريخ الممتد فيغمرني شعور بالامتنان العميق لهذه السيدة النقية التقية التي وقفت إلى جواري في أحرج وأصعب اللحظات بكل الثبات والمروءة والوفاء.. أسال الله تعالى أن يجزيها عنا خير الجزاء، وأن يبارك فيها وفي صحتها.. وفي عمرها.. اللهم آمين..
الجريدة الرسمية