رئيس التحرير
عصام كامل

سيناريو محاكمة حضرة المتهم نجيب محفوظ


قاعة كبيرة لا يعلوها سوى صوت الصمت، تبدو كما لو أنها خانقة رغم ضخامتها، فالأضواء خافتة تلائم مشهدا عبثيا.. يتسلل إليها ضوء شمس كسيح من نافذتين أعلى اليمين واليسار، يدخل على استحياء فينير منها ما استطاع إليه سبيلا.


تتوسطها طاولة ضخمة، تحجب خلفها كراسٍ طويلة ولوحة كُتب عليها جملة واحدة تآكلت أطرافها واستعمرها الغبار، ولكن إذا مانفضت عنها مستعمريها ستجد عبارة "العدل أساس الملك".

على أقصى يسار القاعة، قفص حديدي كبير، صدئةٌ أقفاله، واهنة أسواره، خلفها رجل طاعن في الهِرَم، نحيل القامة خفيف الشعر، تخفي نصف معالم وجهه نظارة طبية ذات عدسة محدبة، ويلقى بجسده على عكاز، قابضا بكلتا يديه على مقبضه، في نصف انحناءة إلى الأمام، ينظر إلى القاعة وجلوسها من خلف نظارته الكبيرة بنظرةٍ شاردة، وابتسامة ساخرة معلقة عليها ملامحه.

أما القاعة فمقسمة إلى جانبين من المقاعد المتوازية والمتراصة في صفوف، تجد صفوفها الأولى ترتدي السواد المتأهب للمرافعة، يليها أناس كما المجذومين في رثتهم، مكبلة أيديهم، تكسو ملامحهم لمحة اليأس مغموسة ببعض اللامبالاة.

يدخل رجل في منتصف الأربعينات يعرف بـ«الحاجب» ليصيح بأعلى صوته: «محكمة»، معلنًا دخول هيئة المستشارين إلى القاعة، فيقف الحضور احتراما لراعي الجلسة الذي سيتوسط مقاعد الطاولة الكبيرة.

بعد أن يجلس القضاة على مقاعدهم يصيح «الحاجب» مرة أخرى: «المتهم نجيب محفوظ»، فيعين مجند ذلك الرجل الكبير القابع في قفصه ليثبت حضوره: "نعم.. موجود".

فلتبدأ الجلسة:
القاضي: اسمك وسنك ومهنتك وعنوانك؟
المتهم: نجيب محفوظ.. بلغت من العمر عتيا.. كاتب.. أما عنواني فلي في كل قلب يتذوق الإبداع بيت.

القاضي: لماذا اخترت مهنة الكتابة؟
المتهم ساخرًا: لأني فشلت أن أكون سباكًا.

تكسر ضحكات بعض الحاضرين واعتراض البعض الآخر صمت القاعة.

يقرع القاضي بمقبض خشبي ثلاث مرات ويطالبهم بالهدوء أو الخروج، ثم يعود لينهر المتهم: التزم بإجابات دقيقة ولا تغمسها بسخريتك المعتادة.

المتهم: أحمد لله أنك تعرف المعتاد لدىَ، أما الكتابة فلا أسباب دعتني لاتخاذها مهنة سوى كونها الكتابة وكوني نجيب محفوظ.

القاضي: أجب بدون فلسفة ولا داعي لطرح نظرياتك، ما قولك فيما هو منسوب إليك من اتهام بخدش الحياء العام؟
المتهم: تذكر؛ أنت طلبت مني أن أجيب بدون فلسفة، إذن أنا لم أخدش شيئا في حياتي؛ لا العام منه ولا الخاص.

القاضي: أقصد في كتاباتك؟
المتهم: لا تحمل الكتابات حيزا للخدش.

القاضي: أنا أسألك أنت.. ما الذي تعنيه؟
المتهم ساخرًا: أمرتني أن أنحي الفلسفة جانبًا وها أنا أنصاع لأوامرك.

القاضي: لا تعد للمماطلة، وأجب: ما هو قولك فيما هو منسوب إليك من اتهامات؟
المتهم يجاهد نفسه للإجابة من فرط تشعب المرض في جسده:
فلتقل لي ما هو تعريف الحياء لديكم، وسأصدقك القول إن كنت خدشته أم لا؟ ثم دعني أسألك: إن تدللت زوجتك عليك سترى الأمر طبيعي.. فهل يحق لي أنا القول بأن دلالها خدش حيائي؟

القاضي: لا تضرب مثلا بي.. وكن واضحًا في إجابتك.. أنت تستخدم إيحاءات جنسية وتجعل من العاهرات أبطالًا لرواياتك، وهذا أمر غير مقبول!!

المتهم: الجنس فطرة طبيعية خلق عليها الإنسان، وعليه تتداول المجتمعات، نظرية أننا خلقنا لتعمير الأرض، فهل ترى إمكانية لذلك سوى الجنس..! أما البغاء فمهنة العاهرات كما تسميهم فهى أقدم مهنة في التاريخ.

القاضي: إذن تعترف باستثمارك لغرائز الإنسان في كتاباتك..!!
المتهم: العطش والجوع فطرة.. الأمومة فطرة.. فهل تضمينهم في الرواية استثمار؟

القاضي: ألم أقل سابقًا دعك من الفلسفة وكف عن الإجابة على سؤالي بسؤال آخر.. أنت تسئ لعقول القراء وتهوي بهم إلى قاع التعرف على عالم من العهر.

المتهم: أكتب لأحيي العقول؛ ثم كل يقرأ حسب ثقافته ومن منظوره وتجربته الشخصية.. فلو أنك رأيت في شخصية إثارة، هذا منبعه أنك كنت تبحث عنها قبل عثورك عليها في سطور الرواية.. يا سيدي العالم المتسخ الذي تصورونه في البغاء؛ شخصياته حقيقية لا مجال لإنكارها مهما حاولتم إرتداء عباءة الطهر والتقى.. هل تسطيع يا سيدي إنكار وجود بيوت للدعارة في مجتمعاتنا؟

القاضي: أنت مدع.. أبطال رواياتك عاهرات لا وجود لهن في الحقيقة؛ أنت تختلقهن لتشوه المجتمع وتساعد في اضمحلال العقول، ولا مجال لرؤيتك ونظرياتك هنا، فالعاهرة عاهرة مهما اختلف الناظرون إليها.

المتهم: (ساخرا) عاهرات رواياتي فاضلات.

القاضي: إذن أنت تقر أمام هيئتنا أن أبطال رواياتك عاهرات؟

المتهم: أنت من تقر بما وقر في عقلك وصدقه قلبك.

القاضي: وهذا إقرار آخر بأنك تتعمد خدش الحياء العام وتقصد تناولك شخوص العاهرات.

المتهم: وهل ذكر الحقيقة خادش؟.. العاهرات جزء من العالم ومهنتهن تجارة قائمة على أرض الواقع؛ ولكن الرواية ليست قائمة عليهن، فهناك صنوف شتى من النساء الفاضلات ذكرتهن، فهل إغفال الفضيلة وسرد الرذيلة في اتهامك أمر مباح؟

القاضي: نساؤك إما عاهرات أو مكسورات الخواطر أو متجبرات يحكن الألاعيب!!

المتهم: كم رواية قرأت لي؟

القاضي: لست موضع القارئ الآن.. أنا فقط قاض.

المتهم غاضبًا: لو أني خادش للحياء، فأنت خادش للعدالة..
ثم يضحك بصوت عال ممزوج بنبرة قهقهته المعتادة قائلًا: لم يقرأ.. لم يقرأ.. إذن ما الفائدة؟.. ما الفائدة؟

يعم صمت مخز أرجاء القاعة قطعه المتهم باعتذار: سيدي القاضي.. لم أعد قادرًا على مواصلة الوقوف؛ اعذر هرمي ولتحكم بما شئت.. سكينكم ما زالت في عنقي وقد سامحتكم سلفًا وسأسامحكم الآن مهما كان الحكم ظالمًا.. الله أعلم من أنا.

لحظات ثقيلة مرت، تتناوب فيها مقاعد القاعة المرافعات الأثقل من الانتظار والوقت.. جلس فيها نجيب محفوظ، المتهم الذي كرمه العالم أجمع؛ يتابع ما يدور في صمت، واضعًا كلتي يديه فوق عكازه، وفوقهم أسند ذقنه، ووجنتيه التي يعلوهما ابتسامة هزلية تليق بالمشهد العبثي.

وفي اللوح المغبر على الحائط حروف تتبدل لتكتب "تموت الأشخاص وتخلد الفكرة والعمل".

مراجع:
1- ثلاثية نجيب محفوظ.. "الله أعلم من أنا" الجملة الأشهر للست أمينة بالثلاثية.
2- البحث النقدي: صورة المرأة في أدب نجيب محفوظ.. د.هويدا صالح.
3- ملخص كتاب "الدعارة والعاهرات في أدب نجيب محفوظ" للكاتب مجدي الكومي.
4- كتاب "دلالة المكان والشخصيات بأدب محفوظ" دراسة نقدية، المبحث الثالث "شخصيات الثلاثية".
الجريدة الرسمية