رئيس التحرير
عصام كامل

الصحة إلى أين؟


لم يمر النظام الصحى في مصر طوال تاريخها بفترة أسوأ مما يمر بها الآن.. فالصحة في مصر تمر الآن بمرحلة فوضى عارمة في كل مكوناتها الوقائية والعلاجية أو البشرية والتنقية.. أصبح المواطن المصرى في رعب شديد من مجرد احتمال تعرضه لأزمة صحية حيث لا شيء مضمون.. توافر الخدمة نفسها غير مضمون والرعايات المركزة والجراحات الدقيقة خير مثال وحتى إذا توافرت الخدمة فلا ضامن لمستواها وجودتها في ظل ضعف الإمكانات البشرية والتقنية.


ووسط ذلك كله وكما يحصل عادة في أوقات ضعف الدولة يستغل الفاسدون الفرصة لتحقيق مكاسب شخصية حتى لو كانت نتائجها كارثية على الوطن وصحة المواطن.. وكما أسلفت في مقالات سابقة فإن السبب الرئيسى لمشكلة الصحة هو نقص الكفاءة البشرية.. البداية كانت سياسية من مسئولين هدفهم تحقيق نجاحات شخصية ظاهرية ودعائية خادعة حتى لو أدى ذلك بالوطن آجلا إلى كوارث حقيقية.

بدأت الحكاية بتسويق فكرة أن الصحة ليست خدمة لها تكلفة يجب تدبيرها وأن جودة هذه الخدمة وتوافرها يعتمد على مقدار ما يتم تدبيره من تكلفة تلك الخدمة وإنما هي فرض واجب على الدولة وحق مكتسب لكل مواطن دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى وتاجر المسئولون بعبارات سياسية من نوع المواطن الفقير وغير القادرين من المواطنين لخداع عامة الشعب وإيهامهم أن الوعود الكاذبة والنفاق السياسي يمكن أن يوفر أي نوع من الخدمات.

ثم تبع ذلك وكنتيجة حتمية لتدهور التعليم تناقص مستمر في مستوى الخريجين في كافة المهن المرتبطة بالصحة مع زيادة كبيرة وغير متناسقة في أعدادهم ولننظر مثلا إلى الهيكل المفترض للخدمات الصحية والذي من المفترض أن يكون فيه 5 أطباء لكل صيدلى و10 ممرضات لكل طبيب نجد أن مصر تخرج سنويًا صيدليين لكل 3 أطباء و3 ممرضات فقط لكل طبيب. ومع الضعف الشديد في الأجور يزداد الهرم الوظيفى تشويها بهجرة ما يقرب من نصف الأطباء الخريجين شرقا وغربا ناهيك عن هجرتهم من التخصصات الدقيقة والمتطلبة للجهد وطول ومشقة التدريب إلى التخصصات التي تتطلب جهدا أٌقل وتحمل أجرا أكبر ومسئولية أقل.

وتلاقى سوء التخطيط مع المزايدات السياسية ليصبا في تدهور خطير في مستوى المنظومة الصحية.. وبدأ الفساد يستغل الخلل في المنظومة الصحية فنرى العمال في الصيدليات يصفون الدواء للمرضى ونرى من المهن الصحية من يدعون بحقهم في الكشف والعلاج بل القيام بإجراءات تداخلية مستغلين ضبابية الموقف وغياب التوصيف الوظيفى وانعدام الرقابة وجهل بعض المسئولين.

ونسمع كثيرا ممن يتكلمون عن الإصلاح الصحى لا يستحون من الحديث عن تكرار أخطاء الماضى بالنظرة السياسية للصحة ادعاء أن تكلفة التأمين الصحى الشامل 100 مليار جنيه رغم أن إجمالى (حكومى وغير حكومى) ما كان ينفق في مصر العام الماضى ومع المستوى المتدنى الحالى يصل إلى 150 مليار جنيه بسعر صرف 6.5 جنيهات للدولار ويتجنبون أي حديث حساب حقيقى لتكلفة الخدمة يتضمن أجورا عادلة لكل العاملين في الفريق الطبى والفنى والإدارى تضمن تفرغهم وحياة آدمية لهم وتقى المجتمع اضطرارهم لفعل أي شيء لسد احتياجاتهم الأساسية.

ثم بعد ذلك تكلفة علاج 90 مليون مواطن من مستلزمات وأدوية ومستهلكات بأسعار حقيقية تضمن هامش ربح معقول وعادل يضمن استمرار توافرها ويشجع المستثمرين على ضخ أموالهم في صناعتها وما في ذلك من صالح المنظومة والاقتصاد الوطنى.

ثم تكلفة ضمان استمرار كل ذلك بكفاءة عن طريق صيانة مستمرة وقطع غيار أصلية ورقابة فنية.. ثم ميزانية منشآت تضمن توزيعًا عادلا للخدمة ينتشر جغرافيا بالتناسب مع توزيع السكان والخريطة الصحية ويبتعد عن المظاهر والبهرجة وإهدار المال العام في تغيير مستمر للشكل الخارجى (رخام – سيراميك – دهانات) ويطبق الكود المصرى للمنشآت المصرية الصادر عام 2006، والذي أهمل العمل به حتى الآن والذي يمنع استخدام تلك المواد في كثير من الأحيان.

وبعد حساب تلك التكلفة عن طريق لجان محايدة تضم ممثلين عن وزارة الصحة وغرفة المنشآت الصحية وغرفة الصناعات الدوائية والنقابات وحينها فقط تبدأ مرحلة الدراسات الاكتوارية لمعرفة مقدار الاشتراك المطلوب من كل مواطن لتغطية تلك التكلفة وبعدها فقط يمكن أن تتدخل السياسة في تطبيق ما نص عليه الدستور من تناسب للاشتراك مع الدخل وتولى الدولة رعاية محدودى الدخل وغير القادرين على العمل.

إن علاج مشكلات المنظومة الصحية يتطلب المصارحة وتحديد الهيكل الوظيفى للعاملين بكل المؤسسات الصحية ثم التوصيف الوظيفى لكل منهم وذلك قبل البدء في حساب التكلفة كما أسلفنا.

والحقيقة أن كل ما أراه الآن يصب في مزيد من التدمير للنظام الصحى فوزارة الصحة أداؤها كارثى تتبع سياسة أشبه بسياسة النعامة في إنكار المشكلات بدلا من علاجها وينعدم فيها التخطيط كما رأينا في مشكلة الإعلان عن تحريك سعر الأدوية أقل من 30 جنيها دون وضع جداول بالأسعار الجديدة ولا أنظمة للمتابعة والرقابة، مما تسبب في هزة كبيرة لسوق الدواء ثم مشكلة ألبان الأطفال ثم تبع ذلك عدم وضع الخطط اللازمة لعلاج آثار تحرير سعر الصرف الخطوة المهمة والضرورية والتي تأخرت كثيرا وكان من المعروف أن لها آثارًا يجب الاحتياط لها والتعامل معها وقد كتبنا في ذلك منذ شهور.

ثم جاء التدخل السلبى لوزارة الصحة دون فكر أو حكمة في تغيير التوصيف الوظيفى للوظائف الإدارية العليا والمنوط بها الشق الفنى والطبى كإدارة المستشفيات ليسمح لغير المتخصصين بالقيام بها مما سيكون له نتائج كارثية حيث يختلف نظام الإدارة المصرى عن النظام الغربى الذي تتولى سياسات المؤسسة الصحبة مجلس إدارة ويتولى الشق الإدارى جهازان منفصلان أحدهما فنى برئاسة الضابط الطبى الأول CHEF MEDICAL OFFICER والثانى بقيادة الضابط التنفيذى الأول CHEF EXECUTIVE OFFICER.

أما ما حدث من تغيير غير مسبوق فستظهر آثاره قريبا.

ثم قامت وزارة الصحة بدعم بعض المهن الصحية لأسباب لا علاقة لها بإصلاح المنظومة الصحية ويمكن أن نسميها دون مواربة من الفساد السياسي طلبا لدعم أعضاء هذه المهن مقابل إعطائهم مميزات غير مسبوقة منها فتح المعامل الطبية لخريجى كليات الزراعة والعلوم والصيدلة والطب البيطرى بعد تجميد لما يقرب من عشرين عاما متحججين بقانون سنة 54 بشأن مهنة التحاليل الطبية وفى نفس الوقت عدم تطبيق باقى قوانين مزاولة مهنة الطب التي تمنع قيام غير الأطباء من مباشرة وعلاج المرضى وكتابة الوصفات الطبية وعمل الإجراءات التداخلية.

إن مصر تمر بمفترق طرق علينا فيه أن نختار بين الاستمرار في الانهيار بتكرار أخطاء الماضى بتسييس الخدمات والاعتماد على أهل الثقة منعدمى الرؤية والكفاءة ومحاباة أصحاب المصالح على حساب صحة المواطن أو البدء الفورى في إصلاح حقيقى مبنى على أساس علمى ومكاشفة وتخطيط دقيق للمستقبل.. ترى ماذا سيكون الاختيار؟
الجريدة الرسمية