رئيس التحرير
عصام كامل

الجمعيات الأهلية ورصاصة القتل الرحيم..!


لم تنته مغارم ثورة 25 يناير عند إحداث ذلك الشرخ الفج في النسيج الوطني، الذي يصفه بعض المحللين بـ"الكارثة" ويرون أن المجتمع يحتاج سنوات أطول للتعافى منها.. بل اتسعت تلك المغارم لتصيب العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، اللذان هما شريكان أساسيان في عملية التنمية.. تلك التي يُعول على نتائجها في لم الشمل والتئام الجرح.. نظرًا لحملات التشكيك التي قادها بعض المحللين السياسيين في وطنية تلك المنظمات ونظافة أموالها أو اتهامها بشكل مباشر بالعمالة لصالح جهات ودول متآمرة.. مما كان له أثر كبير في فقدان الثقة بين الشريكين، والذي تسبب في إقصاء المجتمع المدنى "عمدًا" عن المشاركة في التنمية..


وانحصر دوره في تقديم كارتونة في رمضان أو لحمة من الأضحية أو زجاجة زيت وبعض أكياس من الأرز.. بعد أن توقف المانحون عن التمويل وجعلوه مرهونًا بتحقيق العدالة والاستقرار وصبغة الحكم بالديمقراطية.. وكذلك بعد أن أوصدت الدولة كل أبوب التبرع والهبات للمجتمع المدنى الذي لم يصبح له مصدر للتمويل سوى اشتراكات الأعضاء التي لم تتجاوز 5% من مصروفاته الإدارية..

وفتحت الدولة أبوابها على مصراعيها لتلقى تبرعات رجال الأعمال والمستثمرين في صناديق خاصة بها كـ "صندوق تحيا مصر" وكذلك صدقات أهل الخير وزكواتهم كـ"صندوق الزكاة وبيت مال المسلمين".. الأمر الذي هدد بإغلاق معظم الجمعيات الأهلية في مصر، والتي تجاوز عددها 54 ألف جمعية لم ينشط منها الآن سوى 7.8%.. مما جعل الدولة تغرد "منفردة" في عالم التنمية، دون شريك وطنى يقاسمها المسئولية ويتشارك معها في "الهَّم"!

الأمر الذي يجعلنا نتسأل هل أدركت الدولة أو تدرك خطورة إسقاط "المجتمع المدنى وتهميش دوره في عملية التنمية؟ وهل باستطاعة الدولة أن تحقق بمفردها أهداف التنمية المنشودة ؟ وهل من المنطق أن مجرد الاشتباه في مصادر تمويل منظمة أو منظمتين أو حتى مائة يجعلنا نتشكك في القطاع الأهلي برمته ونغلق أمامه كل منافذ الاتصال أو التواصل مع المجتمع؟!

لقد لعبت الثورة دورًا مهما في تشكيل طبيعة العلاقة بين الدولة والجمعيات الأهلية التي هي أحد أشكال المجتمع المدنى في مصر.. فثمة فريق من السياسيين ينظر إلى الدولة والجمعيات الأهلية باعتبارهما "خصمين متناقضين" يجب أن تظل العلاقة بينهما "متوترة" على الدوام.. وأن أي تقارب بينهما في الرؤى يُفقِد الجمعيات الأهلية شرعيتها في تمثيل البسطاء والعامة.. ويعرضها للاتهام بـ"الخيانة" لصالح السلطة الحاكمة!

ومن أهل السلطة من هو مسكون بفكرة أن القائمين على الجمعيات الأهلية هم "منافسون" محتملون على السلطة؛ مما يدفعه إلى رفضهم تماما ويغلق أمامهم كل فرصة للمساعدة في حل مشكلات المجتمع؛ حتى لا يُنسَب الفضل إليهم! إذ أنهم يرون أن نجاح الجمعيات ربما يتسبب في تعرية السلطات العامة ويكشف عجزها عن الاستجابة لاحتياجات المواطنين! ورغم هاتين الوجهتين الرافضتين شراكة المجتمع المدنى في التنمية؛ فثمة فريق ينادى بضرورة التكامل بينها، إذ يجب على الدولة أن تكون هي الداعم الفعلي والفعال لكل أنشطة الجمعيات الأهلية؛ باعتبارها كيانات أهلية طوعية منتخبة، وأن أىَّ اتهام لها بالخيانة وأي إقصاء لمجهوداتها لا يخدم مصر.. فربما يلبى عن قصد طموحات أعداء الوطن!

لقد ظل القائمون على الجمعيات الأهلية في مصر يحلمون بيوم تتحرر فيه الجميعات الأهلية من القيود التي كبلها بها القانون رقم 84 لسنة 2002م في ظل قيادة سياسية رشيدة متفتحة كالرئيس عبد الفتاح السيسي.. ولكن ما لبثت أحلام الجمعيات أن تذبل بعد أن سدت الحكومة أمام الجمعيات كل منافذ التمويل.. وجعلت الرقابة عليها تفوق الرقابة على "مسجل خطر" وليس شريكًا لها في عملية التنمية.. ضاربة بهذا القانون المباغت كل مواد الدستور، الذي كفل للمجتمع المدنى الحرية الكاملة في القيد والتمويل مادام ملتزم بقواعد العمل الوطنى ومستهدفا لمصلحة الوطن العليا.. حتى جاء القانون الجديد الذي وافق عليه مجلس الشعب حديثًا؛ ليصبح بمثابة رصاصة القتل الرحيم التي أطلقتها الدولة على منظماتها المدنية!

وإذا كانت الدولة تستهدف من قانونها الجديد توجيه الجمعيات الأهلية نحو برامج خدمية بعينها.. فلا بأس من توجيها من خلال مديريات التضامن الاجتماعى التي تشرف عليها.. وإذا كانت الدولة قلقة من أجندات الجهات الأجنبية الممولة؛ فعليها أن تضع الشروط التي تراها مفيدة لصالح الشعب المصرى من خلال إعادة مراجعة اتفاقياتها مع هذه الجهات.. وفى كل الحالات لا ينبغى للدولة أن تقتل شريكها الأساسى لمجرد الشك في نوايا خصم خارجى! أو أن تحرم مصر من العملات الصعبة التي توفرها هذه الجهات في مرحلة عصيبة، تعانى فيها الدولة من أزمة حقيقية في توفير هذه العملات فقط لمجرد التخوف من أجنداتها الخفية!

فمخطئ من يتصور أن حقيقة العلاقة بين الدولة والجمعيات الأهلية يجب أن تكون علاقة وفاق وانسجام، أو أن تكون علاقة خصام وصراع.. فالعلاقة بين الجانبين حتمية، يجب أن تنطلق من المسئولية الاجتماعية للطرفين، وأن تقوم على التكامل في السياسات والموارد والخدمات، كما يجب أن تقوم على التنافس في جودة الخدمات لصالح المواطن.. إذًا فهي ليست على علاقة اختلاف أو اتفاق على طول الخط، وإنما علاقة موضوعية أساسها مصلحة الوطن العليا التي أعتقد أنها لن تتحقق إلا بإحياء دور المجتمع المدنى ودعمه والحفاظ عليه ومنحه مزيدًا من "الحريات" في التمويل والعمل.. وإلا فسوف نطالب جميعًا بدفع تكلفة الإقصاء والتهميش!
الجريدة الرسمية