رئيس التحرير
عصام كامل

رواتب الأطباء (2)


تكلمت في مقال الأسبوع الماضى عن الوضع الكارثى الذي يعيشه الأطباء.. فالأطباء في مصر مقارنة بدول العالم الأخرى وما تسبب فيه من هجرة ما يقرب من نصف الأطباء المصريين للعمل خارج مصر وسعى الكثير من الباقين للحاق بزملائهم.. واليوم نناقش وضع رواتب الأطباء بالمقارنة بباقى المهن داخل مصر، وكذلك الآثار السلبية لتساوى رواتب التخصصات المختلفة رغم اختلاف ساعات العمل ومقدار الخطورة والمسئولية الطبية والأدبية والقانونية.


عشت في الغرب سنوات طوال وتعلم أولادى هناك وكنت أستغرب مما أسمعه منهم عن حصة مدرسية دورية للإخصائى الاجتماعى يتحدث إليهم عن الوظائف المختلفة.. أهميتها للمجتمع.. ما تتطلبه من جهد وسنوات دراسة وما من مردود أدبى ومالى، وكنت أستغرب أكثر من أرقام وأكواد يحملها الأطفال لمعرفة رواتب الوظائف العامة من أصغر موظف وحتى رئيس الوزراء والمندوب السامى البريطانى وتأثر تلك الرواتب بالترقى والأقدمية.

وبدأت أفهم معنى كلمة جداول الرواتب الخاصة بالعاملين بالدولة، وهم العاملون بكل المؤسسات التي تمول من المال العالم وكان أول ما لفت نظرى ثبات الأجر لنفس الوظيفة مهما اختلف مكان العمل إلا إذا تغيرت ساعات أو ظروف العمل وكيف أن الأطباء يأتون على قمة هذه الجداول.

عندما عدت إلى مصر بعد ما يقرب من 15 عاما وجدت أن الوضع قد صار أسوأ من ذى قبل.. وجدت أن هناك مجموعة مؤسسات تسمى قطاع الأعمال العام رغم أنها ممولة من المال العام فإن العاملين بها يحصلون على أجور تختلف تمامًا عن العاملين في القطاع الخدمى بل إن صافى الأرباح بعد الرواتب الباهظة- التي قد تصل إلى الملايين في الشهر الواحد- قد لا تذهب إلى الخزانة العامة وإنما يتم توزيعها على إدارات هذه الشركات بل التبرع بمئات الملايين منها كما يحدث في حالة البنوك، أي أن هذه المؤسسات استولت على المال العام الموجود فيها وسخروه لصالح العاملين بها بزعم أن هذا القطاع انتاجى وليزداد الطين بلة بدأ الفساد في التعيينات بحجـة أبناء العاملين وحجج أخرى أدت إلى تكوين إدارات وشركات وهيئات عائلية ينعم فيها أفراد أسر بعينها بخير الوطن بكل طريق ممكن بل إن بعض المؤسسات تودع ما تحصله من رسوم في صناديق خاصة يتم الصرف منها على رفاهية العاملين بها ومزيد من الزيادة في رواتبهم ويتركون الخزانة العامة خاوية ليدفع العاملون بالقطاع الخدمى الثمن فقرا واحتياجا ويقال لهم إنه لا يوجد ما يمكن إعطاؤه لهم.

ووصل الأمر أن بعض القطاعات تستولى على موارد القطاع رغم تحقيقه لخسائر فادحة، وتوالت حكومات دعمت هذا الفساد وباءت كل محاولات تقليل آثار هذا الفساد الذي يمخر في جسد الدولة منذ عشرات الأعوام بوضع حد أقصى لهؤلاء المنتفعين دون غيرهم والناهبين من المال العام لكن دون جدوى.

وبدأت منذ السبعينيات محاولات لرأب الصدع وتخفيف الظلم نتيجة تباين جداول الأجور في المؤسسات المختلفة عن طريق إضافة ما يسمى البدلات التي تعددت أسماؤها وقيمتها تبعًا لقرب أصحابها من دائرة صنع القرار لتزيد من الظلم والفساد.

ثم نعود للأطباء الذين تم التحايل عليهم لمزيد من الخفض في رواتبهم الضئيلة بهدم الإعتداد بساعات عملهم الزائدة عن النصاب القانونى، فالعامل بالدولة يعمل ما بين 35 و40 ساعة أسبوعيًا أي أقـل من 140 ساعة شهريًا، بينما يضطر بعض الأطباء للعمل أكثر من 400 ساعة أسبوعيًا خاصة في حالة عدم وجود البديل.

وتنص قوانين العاملين بالدولة على أن الساعة الزائدة المسائية تحتسب بأجر ساعة ونصف الساعة بينما تحتسب الساعة الليلية وفي الإجازات الرسمية بساعتين إلا أنه يتم التحايل المتعمد على الأطباء باعتبار عملهم كل هذه الساعات الإضافية جهودًا غير عادية يمنحون على أساسها على مكافأة رمزية لها حد أقصى لا تتعداه مهما بلغت ساعات العمل.. وقد كان من أكبر الأخطاء الاستراتيجية للحركة النقابية الطبية هو محاولة البناء على البدلات الفاسدة بدلا من البدء باسترداد حقوق الأطباء الأكيدة في ساعات العمل الإضافية والتي لا تشاركهم فيها أي مهنة أخرى ولا تحتاج لاعتمادات مالية كبيرة.

ثم نأتى للمساواة في الرواتب بين الأطباء أنفسهم رغم اختلاف متطلبات كل تخصص من جهد ودراسة وتحمل خطورة ومسئولية، مما أدى إلى ما يشبه الهجرة الجماعية للأطباء إلى التخصصات الأقل تطلبًا للجهد والمسئولية وعزوفهم عن تلك التي تحتاج الجهد وسنوات الدراسة العديدة وتحفل بكل مخاطر مزاولة المهنة وأصبحنا إقبالا كبيرًا من شباب الأطباء على تخصص الأمراض الجلدية والتخصصات الباطنية والتشخيصية بصفة عامة والابتعاد عن تخصصات الطوارئ والرعاية المركزة والجراحات الدقيقة وغيرها حتى خلت بعض المحافظات من طبيب واحد في هذا التخصص أو ذاك.

وتكمن المشكلة الأكبر في توالى قيادات سياسية تهادن كل هذا الفساد ولا ترى مقدار التهديد الذي يواجه المجتمع والدولة بسبب انعدام العدالة بصفة عامة وما أصحاب مهن تقوم عليها الدول والشعوب خاصة المعلمين والأطباء، وتكتمل الصورة بمحاولات سياسية وإعلامية بإلصاق كل خطايا التظام الصحى المنهار بالأطباء، فهذا مسلسل أخطاء الأطباء وذاك قانون معاقبة الأطباء وفي كل الأحوال ليس لدى الدولة ما تعطيه للأطباء.

سلام لكل طبيب ما زال يعمل في هذه الظروف وليحذر شعب لا يقدر قيمة الروح الإنسانية والعاملين على حمايتها.
الجريدة الرسمية