رئيس التحرير
عصام كامل

رواتب الأطباء


ترتبط مهنة الطب ارتباطا وثيقا بحياة الإنسان، فجوهر الممارسة الطبية هو المحافظة على حياة الإنسان بل يتخطى ذلك في أحيان كثيرة إلى محاولة ضمان أفضل جودة ممكنة لحياة الإنسان، وتحرص معظم دول العالم على حياة وصحة مواطنيها فتضع الرعاية الصحية على قمة أولوياتها واهتماماتها وتحاول بشتى الطرق ضمان أفضل رعاية صحية لهم، وقد خلصت معظم المجتمعات إلى أن الخدمة الطبية هي إحدى الخدمات التي تعتمد بالأساس على العامل البشرى من الأطباء ومساعديهم حتى قدر أن العامل البشرى في معظم الدول المتقدمة يستهلك في المتوسط نحو 65% من تكلفة الخدمة الصحية كلها، والتي تقدر في المتوسط العالمى بأكثر من ألف دولار للفرد سنويا تبعا لآخر إحصائيات البنك الدولى (أي إنه مطلوب 630 مليار جنيه لعدد 90 مليون مواطن بسعر الصرف الرسمى).


وقد أصدرت مجلة براكتس لنك جورنال المعنية بالخدمة الطبية دراسة أوضحت فيها أن المتوسط العالمى لأجر الطبيب هو 113 ألف دولار سنويا (أكثر من مليون جنيه مصرى بسعر الصرف الرسمى) شامل ما يصرف له من بدلات معيشة وسفر، .. إلخ، وجاءت هولندا في المركز الأول عالميا بمتوسط 253 ألف دولار سنويا للأخصائى و117 ألف لطبيب العائلة، تليها أستراليا 247 ألفا للأخصائى و91 ألفا لطبيب العائلة، ثم الولايات المتحدة 230 ألفا للأخصائى و161 ألفا لطبيب العائلة.

ولما كان العامل البشرى هو أهم المؤثرات في الخدمة الطبية فقد وضعت الدول التي تهتم بمواطنيها ثلاثة أهداف مرتبطة بهذا العامل وهى: "التعليم والتدريب–التفرغ- تجنب تضارب المصالح" حتى تضمن تأدية الأطقم الطبية لواجبها على أكمل وجه لتقديم أفضل مستوى من الخدمة.

وأتذكر أنى عاصرت مشكلة سياسية كبيرة في كندا في أوائل هذه الألفية عندما توفيت امرأة أثناء انتظارها لدورها بقسم الطوارئ في أحد المستشفيات، ووصل النقاش للبرلمان للمقارنة بين متوسط فترة الانتظار بأقسام الطوارئ وقتها والذي كان نحو 6 ساعات لغير حالات النزيف، وبدأ النواب في البرلمان تحت الضغط الشعبى في المطالبة ببذل كل جهد ممكن لتقليل وقت الانتظار، ومن ذلك العمل على زيادة أعداد الأطباء خاصة في الطوارئ لكن الكليات الطبية الملكية للولايات وروابط الأطباء تقدمت بدراسات تقارن بين أجور الأطباء في كندا بالولايات المتحدة، وأن نظام العمل في كندا يربط الأجر بعدد الحالات وأن زيادة العدد سيؤثر بشدة على الأجور مما يهدد بهجرة الأطباء إلى الولايات المتحدة، وعدم تفرغ الأطباء الباقين في كندا نظرا لسعيهم للمحافظة على مستوى معيشتهم بطرق أخرى..

بالإضافة إلى الخطر المؤكد من بدء تضارب المصالح الذي قد يؤثر على قرارات طبية قد تتخذ على غير أساس علمى، وقد تكون في غير صالح المريض نظرا لوقوع الطبيب تحت الضغوط المادية أثناء اتخاذه للقرار، وبعد شهور من النقاش اتخذ البرلمان قرارا بمنع أي خطوة من شأنها التأثير على مستوى معيشة الأطباء الذي يعتبر الضمانة الأولى لإنقاذ حياة المواطنين.

أما في مصر.. فالوضع يختلف ففى حين نستمع إلى كلام معسول في الإعلام والبرلمان ومن المسئولين التنفيذيين عن اهتمامهم بصحة المصريين وادعائهم أن الصحة هي الأساس وأهم دعائم الإنتاج والأمن القومى إلا أن الواقع يشهد أن الأطباء في مصر يعيشون مأساة بمعنى الكلمة وفى العوامل الثلاثة التي ذكرناها يكفى أن نقارن بين متوسط تكلفة تعليم طالب الطب في مصر، وهي أقل من 500 دولار سنويا في الجامعات العامة ونحو خمسة آلاف دولار في الجامعات الخاصة نجدها أكثر من 20 ألف دولار في الجامعات الغربية دون فارق بين العام منها والخاص.

وبينما يتكلف إعداد جراح متخصص ما يقارب المائتي ألف دولار في الغرب، فإن ما ينفق على تدريب الجراح المتخصص في مصر يتراوح بين 1-5% من هذه التكلفة، وعلينا أن لا نصطنع الاندهاش بعد هذا من الفارق بين المستوى الخدمة الطبية بين هنا وهناك.

ثم نأتى للرواتب وهي من أكثر الرواتب تدنيا في العالم مما يؤدى إلى هجرة ما يقرب من نصف الأطباء المصريين بل إن بعض الدول ترسل لانتقاء أفضل العناصر ويتقدم الآلاف من الأطباء للوظيفة الواحدة نظرا للفجوة الكبيرة في الراتب والخدمات بين هنا وهناك، إلا أن قلة الراتب لا تعبر وحدها عن مدى الكارثة التي نعيشها، حيث يضطر الأطباء للعمل لساعات طويلة، وفى أماكن متعددة في محاولة لسد احتياجات أسرهم التي تعانى من تضاعف الإنفاق على الصحة والتعليم والسكن والمواصلات مقارنة بالدول الأخرى، في نفس الوقت الذي تتدنى فيه الأجور مما يؤدي إلى معاناتهم من الإرهاق وضعف التركيز وفى بعض الحالات إلى إهمال العمل في المؤسسات العامة.

ثم يأتى تضارب المصالح كنتيجة واضحة لما وصل إليه الأمر، فكم من طبيب ترك ابنه أو زوجته أو أحدا من والديه يعانى المرض ويحتاج إلى علاج أو تدخل طبى لا يملك ثمنه ثم يذهب إلى عمله ليتخذ قرارات بعضها فيه ما قد يسد هذا الاحتياج لكنه في غير مصلحة المريض !
نستكمل في الأسبوع القادم بإذن الله ..
الجريدة الرسمية