رئيس التحرير
عصام كامل

دروس قبضايا في الصحافة والحياة


في كل مرة أحاول فيها الكتابة عن أستاذ الأجيال في بلاط صاحبة الجلالة، الراحل العظيم الدكتور صلاح قبضايا، أجدني عاجزًا عن التعبير.. ربما لشدة تأثري به.. أو بسبب المخزون الهائل من المواقف والدروس والتجارب التي امتدت لسنوات طويلة عبر رحلتي معه في جريدة الأحرار.. وتتزاحم على عقلي ووجداني كلما هممت بالكتابة أو الحديث عنه.


رحل «كومندان» الصحافة، لكن ستظل أعماله باقية، تتعلم منها كل الأجيال، وأحدثها آخر ما كتب «اعترافات صحفية»، حيث طبعته أسرته الكريمة، وأقيم حفل توقيع الكتاب في دار الأوبرا، يوم الإثنين 17 أكتوبر، بحضور زوجته السيدة نبيلة بدران وكريمته هبة قبضايا، وكوكبة من الكتاب والمفكرين والصحفيين والشخصيات العامة.

الكتاب مليء بالدروس المفيدة والمواقف العظيمة التي ترصد مسيرة قبضايا، وتؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ مصر وصحافة المعارضة.

وفي الكتاب الشيق دروس مهمة للشباب الذين لا يؤمن معظمهم بروح الفريق الواحد في الصحافة بعيدًا عن المسميات الوظيفية.. ودروس أخرى للمسئولين الذين لا يقدرون أهمية مهنة الصحافة وقدسيتها.. ومن بين المواقف التي تعلمت منها الكثير في المهنة والحياة ما رواه عن تكليف على أمين له بإعداد باب باسم «أجندة اليوم» في جريدة الأخبار، يرصد من خلاله الفعاليات اليومية التي تهم القراء.. حتى تلقى تكليفًا بالسفر لغزة لعدة أيام في مهمة صحفية باعتباره محررًا عسكريًا، -وكان رحمه الله عميدًا للمحررين العسكريين وله مؤلفات قيمة عن حرب أكتوبر المجيدة- وهنا وجد قبضايا نفسه في مأزق..

كيف يقوم بإعداد الباب رغم سفره وعدم وجود وسائل اتصال كالتي نستخدمها اليوم، فذهب إلى لطفي حسونة نائب رئيس تحرير الأخبار يحكي له ما أصابه من هم التفكير في الباب خلال مدة غيابه، وحاول تقديم عدة مقترحات لحل هذه الأزمة المستعصية.. لكن كان رد حسونة مثيرًا للغاية، حيث يقول قبضايا: «سألني الأستاذ عن عدد المقابر التي أراها من حولي، وعدد المقابر التي تزدحم بها الأرض في مصر، وفي سائر الأمصار، بل وفي العالم كله، وأجبته بأن عدد المقابر أكثر من قدرتنا على إحصائها، وابتسم وهو يكمل الدرس الذي لم أنسه يومًا مثلما لا أنسى دروسًا أخرى منه كانت أكثر قسوة، قال الأستاذ لطفي: إن كل فرد من هؤلاء الذين يرقدون تحت التراب كان يتوهم أن الحياة ستتأثر بغيابه أو بموته، ولكن العكس تمامًا هو ما حدث، لقد تقدمت البشرية كثيرًا بعد أن مات كثيرون، وغاب عن دنيانا الكبار والصغار والعباقرة والأفذاذ.

لم يكن في العالم طائرات وأصبح لدينا طائرات، وبعد أن مات غيرهم أصبح عندنا الراديو واللاسلكي والتليفون والسيارات والمطابع العملاقة وملايين الاختراعات والأجهزة التي ظهرت في عصور متلاحقة بعد أن مات الكثيرون الذين كان من بينهم من ظن أن العالم سيتأثر بغيابهم.

يا بني لا شيء في العالم موقوف على وجود أحد ولا شيء سيتغير أو حتى سيتأثر بغياب أحد. وما تفعله ليس موقوفًا عليك وإن غيرك يستطيع أن يقوم بما تقوم به فلا تقلق على شيء ستتركه خلفك وتذهب أو سيتركك هو ويذهب لغيرك. سافر أنت على بركه الله وسيقوم غيرك بما تقوم به مثلك، بل وأفضل، وانتهى درس الأستاذ لطفي لكنه لم يكن الأخير».
الجريدة الرسمية