رئيس التحرير
عصام كامل

حلوة الدنيا سكر!


عاصرت هذا الموقف في بداية الثمانينيات، كُنت طفلًا أتابع ما حولى بذهول وفضول وعدم فهم كسائر الأطفال، بعد ذلك تحوَّلت تلك التسجيلات في الذاكرة لمعلومات مربوطة بالقراءات والخبرات والتجارب التالية، يمُر أحدهم أمام مستودع السجائر المُزدحم عن آخره بالراغبين في شراء علبة أو علبتين أو قاروصة (مكانش اسم خرطوشة لسَّة طلع) ويهتف "الفراخ جات في الجمعية" فجأة مُعظم المُتهافتين على السجاير يطلعوا يجروا ع الجمعية، ويقف هو يشترى السجاير براحته من غير زحمة، طبعًا غنى عن الذكر أن الجمعية مكانش فيها فراخ ولا يحزنون لكنها خدعة مُكررة ودائمًا كانت تنجح طوال الوقت!


الرغبة في تكذيب الشخص صاحب خبر فراخ الجمعية تتناقض دائمًا مع التمسُّك بالاندفاع مع الجموع للتهافت على شراء فرخة، إن سلوك الجمهرة يغلب دائمًا السلوك الفردى ويطغى عليه بل يلغيه تمامًا ويمحو معه عقل صاحبه أو يقوم بتخديره مؤقتًا، لعلمك في كُل مرَّة تفلح هذه الوسيلة في التخدير دون أن يمتلك المرء مقاومة أو مناعة ضد هذا المُخدِّر، إن العشم في الحصول على فرخة من الجمعية قبل الآخرين أو معاهم كان يطغى دائمًا على الرغبة في التمسُّك بالرصانة أو بعلبة السجائر!

كانت الدُنيا آنذاك مُختلفة تمامًا، لكى تشترى تليفزيون أو ثلاجة لازم تحجز في الشركة قبلها بعدة أشهر وتنتظر دورَك الذي سيأتى بعد شهور أو سنين حسب الحظ والوسايط، أما تركيب تليفون في المنزل فيُمكن للأب أن يتعاقد على ذلك بتقديم الطلب والأوراق المطلوبة لكى يكون في استطاعة أحفاده الاستمتاع باللعب بالهاتف أبو قُرص بعد عُمرٍ طويل، لا سيما أن هذا الاستمتاع غير مُقيَّد بشرط أو بخوف من أن الهاتف ينشغل لسببين بسيطين؛ الأول أن أحدًا لا يتصل بأحد لأن محدش عنده تليفون غيرهم أصلًا، والثانى أن التليفون بتنقطع عنه الحرارة يوميًا من 7 صباحًا لــ7 صباح اليوم التالى!

وعودة للفراخ والسجائر، ولكى لا يغضب منا أخواننا المُصححون فالفراخ هي الدجاج طبعًا، حاجة كدة زى أغنية (حمادة هلال) شهداء 25 يناير ماتوا في أحداث يناير راحوا وفارقوا الحياة، هل رأيت في حياتك ناس بتموت وتفارق الحياة؟ هذه مُعجزة إنشائية وشعرية تميَّز بها العبقرى (ملاك عادل) مؤلف الأغنية، فأن يموت الناس ويفارقوا الحياة في نفس الوقت لهو أشبه بقول الشاعر العبقرى القديم في وصف الماء "كأننا والماءُ من حولنا قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ".. المُهم نرجع للفراخ -الدجاج تانى- فصناعة الأزمة أسهل من تسريح شعر حضرتك الصُبح، يكفى أن تقول إن هناك أزمة بينما لا توجد أزمات أصلًا ولا يحزنون، من هُنا تُصنع الأزمة!

إن كُنت لا تُصدقنى فتعالى قول إن هناك أزمة سُكر، أو نقصًا في الزيت، أو ندرة في الوقود، الناس لن تُفكر، لن تراجع عقولها ليؤكد الواحد منهم لنفسه أو لأسرته أو لأصدقائه إنه لسَّه شارى زيت عادى، أو أنه عاد لتوه من محطة البنزين بعدما فوِّل السيارة ع الآخر لدرجة أن الوقود طرطش على الكبوت، سيتهافت الجميع على البقالين والبنزينات مُكذبين أعينهم ووعيهم ورءوسهم ومُخدرين عقولهم ليصنعوا الأزمة الحقيقية آنذاك، يتهافتون على تخزين السُكر أو يتسابقون على قفش أزايز الزيت، يزيد مستوى الطلب عن الحَد المطلوب فتُصنَع الأزمة بجد، شعور الناس بوجود أزمة هو ما يصنع الأزمة الحقيقية، كُل واحد يشترى أكثر من حاجته لخوفه من حدوث الأزمة، فيصنع بنفسه الأزمة، ويشح المعروض فترتفع الأسعار وتفتح السوق السوداء فكيها لابتلاع الجميع، ويسترزق الهليبة والحرامية!

هل تعلم أن أسهل طريقة لرفع سعر أي سلعة أو حتى عُملة هي إطلاق شائعة بأن الرُز أصبح بعشرة جنيه مثلًا بدلًا من خمسة؟ هذا وحده كفيل بخلق حالة من التهافُت على شراء الرُز من جانب المُستهلكين في المناطق التي يقطنون فيها قبل أن يرتفع سعره للرقم المذكور والذي دائمًا يكون موجودًا في مكان آخر، يعنى مثلًا في المنوفية يقولون إن الأرز وصل 10 جنيهات في القاهرة، وفى القاهرة يقولون إن الأرز وصل سعره 10 جنيهات في الإسكندرية، وفى الإسكندرية يقولون وصل إلى 10 جنيهات في أسيوط وهكذا، هذا وحده كفيل برفع سعر الأرز لعشرة جنيهات في كل مكان نتيجة التهافت على شرائه، ونتيجة لرفع التُجار الكبار والصغار لشعار اشمعنى إحنا بنبيع رخيص وهو غالى في كُل مكان.. هنا يرتفع سعر الأرز كما يرتفع سعر الدولار بشائعة مُماثلة وكذلك سعر السُكر والزيت واللحوم والدواجن والعفريت الأزرق!

قرأت خبرًا عن أنه تم ضبط تاجر سورى قام بتخزين 98 طن سكر لبيعها في السوق السوداء استغلالًا للأزمة المُصطنعة مثل أغلبية أزمات بلادنا على مبدأ مُعظم النار من مُستصغر الشرر، يعنى حضرته ينطبق عليه المثل القديم "كل شيء تقلعه، إلا البنى آدم تزرعه يقلعك" أرجوك تقرأها بالتشكيل السليم، فالمقصود أن ابن آدم يقلَعَك بفتح اللام فقط لا بفتحها وتشديدها وإن كان ده اللى حصل فعلًا للأسف!

الخُلاصة.. أن كُل الأزمات التي يُعانى منها الناس منذ عدة سنوات ترجع إلى سلوك الناس أنفسهم والمُصاحب دائمًا بلا وعى ولا تفكير لشرور تُجار معدومى الضمير كل غرضهم تحقيق أكبر ربح مُمكن مدعومين بغطاء تآمُرى يعمل على الأرض بفاعلية حقيقية وفى الأجواء بشائعات وأخبار مضروبة تؤتي ثمارها جيدًا بالنسبة لهم، ذلك الغطاء التآمُرى راغب في إبقاء حالة الغليان قائمة في الشارع المصرى بلا توقُف كعقاب على انتزاع الشعب السُلطة من النظام القائم قبل 30 يونيو وقيامه باختيار بديل آخر!

وماذا عن الحكومة والأجهزة الرقابية أهى بريئة من كُل هذا؟ طبعًا لأ، الحكومة تتعامل بخيابة شديدة مع مثل هذه الأمور لا سيما بقيامها دائمًا بدور رد الفعل لا الفعل، الحكومة تترُك المُشكلة تُخلَق من العدم أو حتى بسبب تافه أو سبب يُمكن علاجه في مهده، ثم تبدأ في الحركة بعدها بعشوائية، كما أن الفساد المُستشرى في كل الأجهزة ودواليب العمل المعشش فيها فئران الرشوة والنوم والتزويغ والتآمُر كذلك بالعمل لصالح الإخوان أو ضد الدولة بأى شكل للانتقام منها أو بسبب أغراض سياسية، كُل هذا يُضاعف من وطأة الأزمات ويدعم وجودها ويقضى على إمكانية حلها..

ولو تفرَّغ البرلمان لأداء دوره المنوط به لفترة قصيرة بعيدًا عن حكايات الجنس بتاعة النائب إياه أو مشكلات التفتيش في المطارات ونقلع الجزمة واللا نلبسها، وتم سن تشريعات حازمة قاسية تذبح بلا رحمة المُتلاعبين بقوت الشعب، وتُلزم السُلطة التنفيذية بتطبيق القانون بلا رحمة على المتجاوزين بعد أن يتم تطبيقه على السلطة التنفيذية نفسها وذبح المتواطئين والمُهملين والمُتآمرين بداخلها فستُحَل وقتها مُعظم مشاكلنا، وساعتها هاتبقى حلوة الدُنيا سُكر، وأهو نُص العمى ولا العمى كُله!
الجريدة الرسمية