رئيس التحرير
عصام كامل

«موسى مع الخضر».. النهاية

فيتو

عندما بنى الخضر الجدار لأهل القرية اعترض موسى على فعله؛ لأنه رأى أن هذا الفعل يعد مكافأة لهم على لؤمهم، وعدم استضافتهم لهما، فكانت هذه نهاية صحبة موسى للخضر، حيث بين له الخضر عندها الحكمة في أفعاله التي فعلها، ومنها بناؤه للجدار، حيث أن ذلك الجدار كان تحته كنز لغلامين يتيمين تركه أبوهما، فحفظه الله لصلاح أبيهما، وهكذا فإن الصلاح أمان، والله تعالى يكفل أهل الصلاح ويضمن عنهم.



سنعرض المشهد الأخير الذي به انفضت الصحبة بين موسى والخضر عليهما السلام، ذلك المشهد أو الموقف يتعلق بالكنز الذي كان تحت الجدار، وسننظر كيف أن الله عز وجل يعاقب الرجل على قصده.


لطيفة قرآنية

قال تعالى: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82] هنا في قوله: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ } [الكهف:82] وفي الآيات السابقة ( تستطع )، فحذف حرف التاء.


وقبل معرفة الحكمة من حذفه أقدم بقاعدة عند علماء البيان، يقولون: (إن المبنى والمعنى يشتركان في أداء الوظيفة من اللفظ، فإن زاد المبنى زاد المعنى، والعكس إن قل المبنى قل المعنى) (المبنى): هي الأحرف، فالأحرف هي اللبنات في الكلمة كالطوبة بالنسبة للجدار، فحرف مع حرف مع حرف يعطيك كلمة.


والكلمة التي لها خمسة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها أربعة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها حرفان أو ثلاثة.

فمثلاً: صرخ، لو قلنا: اصطرخ فزاد حرف الطاء على الكلمة، قال الله عز وجل: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } [فاطر:37] لم يقل: يصرخون؛ لأن الاصطراخ أشد من الصراخ، (يصطرخون): أي: بحمية، بهلع وجزع، فلفظة يصطرخون أقوى من لفظة يصرخون؛ لأنه زاد في كلمة (يصطرخون) حرف الطاء، إذاً: زيادة حرف في الكلمة يزيدها معنى بخلاف نقصانه من الكلمة.


مثلاً: كلمة (استطاع) التي نحن بصددها الآن، قال الله عز وجل في قصة ذي القرنين التي هي بعد قصة موسى والخضر لما بنى السد وجاء يأجوج ومأجوج، قال الله: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } لم يستطيعوا أن يتسلقوه { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } ولا شك أن إحداث ثقب في سد عريض هائل من الحديد والقطران أصعب من أن تتسلقه، لذلك جعل التاء في (استطاعوا) في النقب؛ لأنه أشد على النفس ويحتاج إلى مجهود، وأما مجرد التسلق فسهل، ولذلك حذفت التاء، فدل على أن التسلق أسهل بكثير جداً من النقب وإحداث ثقب.


ففي الآية الأولى: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ } [الكهف:78] أتى ( بالتاء )؛ لأن القضايا الثلاث كانت عسيرة جداً على نفس موسى، ففي كل قضية كان يعترض، فلم يقبلها.


فقال: ذلك الذي شق عليك وعلى نفسك ولم تستطع أن تتحمله أنا سأنبئك بتأويله، فلما حل الخضر رموز القصة ظهر أنها حكمة فعلاً، وظهر أنه لم يفعل ذلك جزافاً، حينئذٍ سهل فهم المواقف كلها على موسى، حينئذٍ قال: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82] أي: أنه سهل ولم يكن شاقاً كما كنت تعترض عليَّ في أول الأمر، فلذلك حذف ( التاء )، وحذف (التاء) هنا دل على ذهاب المشقة والحرج اللذين كانا في نفس موسى: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82].


نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.


اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.


من صدق مع الله صدقه الله


لقد وفى الله عز وجل لهذا الرجل وأرسل الخشبة إلى صاحبه؛ لأنه صدق النية، ويستحيل أن يصدق الرجل نيته كلها لربه ولا يوفيه الله عز وجل حسابه، بل إذا أخلصت ضميرك يأتيك عون الله، وأما إن أخلصت نيتك (90%) والعشرة أين ذهبت؟ بالتأكيد ذهبت لشريك، أو لبشر، أو لهوى نفس، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئاً تركته وشركه ) فالله عز وجل يكلك إلى الـ(10%) هذه، ولا تغني عنك الـ(90%) شيئاً ( من أشرك بي شيئاً تركته وشركه ).


فهذا الرجل لما قال له صاحبه: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً، قال له: فذاك، أي: أنا لا أريد أكثر من هذا، فوفى الله عز وجل عنه وسخر هذه الخشبة المأمورة: { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:56].


جميع الأقدار بيد الله


قد يمشي الرجل في شارع فيقول: بل سأرجع إلى هنا، فيجد خيراً أو شراً، فيقول: لو أنني مضيت في سبيلي ما أصابني كذا، فالله هو الذي حول ناصيته من هذا الشارع إلى ذاك، ليتم قدره ولتنفذ مشيئته.


ذكر أحد الصحفيين أن رجلاً أراد أن يشاهد مباراة كرة القدم بين ألمانيا الغربية وهولندا في كأس العالم سنة أربعة وسبعين، فحجز في الطائرة ليذهب فقط يشاهد ويرجع.


ثم عرضت له ظروف، فتأخر عن موعد إقلاع الطائرة دقيقتين، فوجد الطائرة أقلعت، وبما له من نفوذ أمسك مدير المطار وشدد الكلام عليه، وأنه لابد من طائرة مخصوصة تخرج الآن حتى لا تفوته المباراة.


قال: وبعدما استعملت كل ما عندي من نفوذ وإمكانات لم أجد بداً من القعود، قال: فرجعت مهموماً كاسف البال، فشاهد المباراة في التلفاز، وقرأ الصحف في اليوم التالي فوجد أن الطائرة قد ارتطمت بجبل في سويسرا ومات كل من عليها { لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص:82]، فالآن عرف ربه، وعرف أن الله متصرف في الكون، وعرف أن الله نجاه.


فكم من أمانٍ في نفس الإنسان، تذهب نفسه حسرات أنه لم يحصلها وأنها فاتته، ولو أن الله عز وجل أطلعه على لوح الغيب لعلم أن الله أرأف به من الأم بولدها.


فهذا الرجل صاحب المال الله هو الذي ضمنه، وإن الله ما استودع شيئاً إلا حفظه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع أخاً له يقول: ( أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك ) لا يقل: أستودع الله مالك، أستودع الله جاهك، إنما: ( أستودع الله دينك )، وكان وهو مسافر يقول: ( اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل والولد ) وإذا رجع قال: ( آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ).


فاستحفاظ الله عز وجل للمؤمن ولكرامته أمر مقطوع به، والشيء الذي ينقص الآن أن يحس المسلمون به إحساساً عملياً أن تشعر أن الله ضامن فعلاً، أن تعطي أخاك الدين والمال والعون ولا تشح به: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة:280]، فإن الله عز وجل كما ورد في بعض الآثار جعل أجر القرض بثمانية عشر مثلاً، والقرض هو القرض الحسن الذي لا يعود بفوائد.


تقلب الحياة بالبشر


إن من يقرأ التاريخ سواء التاريخ الإسلامي أو التاريخ المعاصر أو تاريخ اليهود والنصارى، رأى هذه حقيقة ثابتة لا تتخلف، فإن البشرية كلها من يوم أن خلق الله آدم حتى الآن لم تعرف أعتى ولا أضل من فرعون، ولا حتى مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فإن ذاك ادعى الألوهية، وكان في عز ومنعة من نفسه وقومه، ومع ذلك فالله عز وجل أجرى الأنهار له في مصر حتى أغرقه بها.


وهكذا تنقلب النعمة إلى نقمة، الماء نعمة { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30] لكن الماء يغرق، فهذا فرعون الذي افتخر بالماء، وبأن هذه الأنهار تجري من تحته، جعلها الله فوقه.


وفي تاريخنا المعاصر قال رجل: أولادي في الجيش، وهذا الجيش لي، وهذه الأوسمة لي، ويلبس ثياباً عليها أوسمة لم يعرفها أحد من البشر، ولا أحد يمنعه، وثقته بالناس وثقته باللباس الواقي من الرصاص، لكن الله عز وجل هو الذي يحرك الناس.


قال لي أحد الطيارين: بينما أنا أركب الطائرة في تدريب إذ نظرت إلى القاهرة، فإذا أعلى عمارة في القاهرة أقل من هذا البنان، والناس يمشون كالنمل على الأرض.


قلت: كم كان ارتفاع الطائرة عن الأرض؟ قال: اثنان أو ثلاثة أو أربعة من الكيلو مترات؟ إذا كنت بهذا الارتفاع القصير ترى هؤلاء الناس بما فيهم من كفر وجحود وعناد وظلم تراهم كالنمل ليس لهم وزن، فكيف يرى ربنا من فوق سبع سماوات هذا البشر؟ كالنمل التي تتحرك على الأرض، فيهم الشر كله وفي بعضهم خير، وهذا الجيش الذي يحمي كان هو الآفة بالنسبة للذي يحتمي به، وكذلك يعطي الله الآيات للناس لعلهم يتفكرون، أي رجل يأتي بعد ذلك لن يكون أقوى من فرعون، ولن يكون أغنى من قارون، ولن تنتصر على البشر بقوتك أو بمالك، واعتبر بهؤلاء الذين مضوا.


فالأرض لن تتخلص من كبوتها هذه إلا إذا عاد المسلمون بالذات وليس أي إنسان، إننا نطالب المسلمين أن يسلموا، الذين يخرجون من هذه البلاد يدعون إلى الإسلام في بلاد الكفر كأمريكا أو روسيا نقول لهم: ذوو القربى أولى، هل أسلم أولادكم أولاً حتى تذهبوا؟ قد يفتن الرجل الداعية، والسفر إلى بلاد الكفر محرم إلا لضرورة قصوى، كشيء نافع للمسلمين لابد لهم أن يدرسوه أو يعلموه، فحينئذٍ يجب السفر، لكن أن يسافر ليسكن فهذا لا يجوز.


صلاح الوالد أمان للذرية


قال تعالى: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } [الكهف:82] فالله حمى الكنز بصلاح الوالد { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } [الكهف:82] وجعل الله عز وجل كفيلاً على الذرية، وقد قال الله في سورة النساء: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ } [النساء:9] هل قال: يُؤَمِّنُوا عليهم؟ لا، فالتأمين على الحياة ضرب من المقامرة نهى الإسلام عنه؛ فإن الذي يقبض منك ثمن التأمين قد يموت وهو يكتب المال الذي استلمه، فالتأمين على الحياة مقامرة.


لكن ماذا يفعل الذين يخشون أن يتركوا ذرية ضعافاً لا حيلة لهم بين الناس؟ قال: { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [النساء:9] هذان قسطان ادفعهما، والله عز وجل كفيل بذريتك من بعدك: { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [النساء:9].


كفالة الله للعبد المؤمن


من الحكايات الجميلة التي تهز القلب من قصص بني إسرائيل ما حكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا لنأخذ منه العبرة على كفالة الله عز وجل للعبد المؤمن، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل أراد ألف دينار قرضاً، فذهب لرجل آخر، فقال له: أقرضني ألف دينار إلى أجل وليكن في آخر الشهر أعطيك الألف دينار.


قال: ائتني بشهيد.

قال: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).

قال: ائتني بكفيل.

قال: كفى بالله كفيلاً.

قال: فذاك -أي: أنا لا أريد إلا هذا- وأعطاه الألف دينار لأجل، فأخذ الرجل المال وركب البحر، فعمل بالألف دينار، فعندما جاء موعد الوفاء وكان بين الدائن والمدين بحر، وكان البحر هائجاً، وكانت الرياح عاصفة، والمراكب التي تنقل الناس توقفت عن العمل.


فوقف الرجل بالألف دينار على شاطئ البحر ينظر مركباً فلم يجد، وكان الرجل الدائن على الشاطئ الآخر ينتظر حضور الرجل بالألف دينار على حسب الموعد المعلوم.


فلما استيئس الرجل، أخذ خشبة فنقرها -عمل فجوة فيها- ووضع الألف دينار، ووضع كتاباً مع الألف دينار أن هذا المال إلى فلان.

ثم أمسك الخشبة بعد ما سدها، وقال: يا رب! أنا جعلتك كفيلاً وجعلتك وكيلاً وضامناً فأوصل المال إلى صاحبه، وقذف بالخشبة في البحر.

وفي بعض الروايات أن الخشبة كانت تمشي ضد الموج -مع أن الموج في ذاك اليوم ليس موجاً عادياً بل الموجة الواحدة قد ترتفع إلى أمتار، وهذه الخشبة كصندوق موسى، لما رمت أم موسى ابنها موسى في التابوت، لكن الله هو الذي يحركه؛ لأنه هو الضامن وهو الكفيل، وفي هذا نكتة أذكرها في آخر القصة.



وقف الرجل الدائن على البحر فلم يأتِ مركب ولا رجل ولا شيء، فلما أراد أن ينصرف إذا بالخشبة تلعب أمامه في البحر، -تذهب وتجيء- ولا تتحرك ولا ترتد مع الموج، إنما انحصرت في متر، فقال الرجل في نفسه: آخذ هذه أستدفئ بها من البرد.


وأخذ الخشبة يستدفئ بها، ورجع مهموماً، فأتى بالقدوم وكسرها فإذا هو بصرة، فقرأ الكتاب، فعلم أن الرجل حال بينه وبينه الظروف الجوية.


وفي نفس اليوم مساءً ذهب الرجل المدين، فأخذ ألف دينار أخرى وركب مركباً، وذهب إلى صاحب المال، فقال: والله إنه لم يمنعني أن آتيك بمالك إلا أن البحر كما ترى، خذ مالك جزاك الله خيراً.



فقال له الرجل: هل أرسلت لي مالاً؟ قال: سبحان الله! أقول لك لم أجد مركباً.

قال: جزاك الله خيراً، فإن الله قد أدى عنك، فارجع راشداً، فرجع بالألف دينار راشداً.


فالله كفيل والله وكيل، وهذه القصة لو أنها لم ترد في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل ولا يوجد فيه إلا صحيح، لعددنا هذا ضرباً من الأساطير والحكايات الخيالية.


فهذه القصة حكاها النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة ليستفيدوا منها، فهذا الرجل أخذ ألف دينار لأجل، فقال: ائتني بشهيد أو كفيل، قال: كفى بالله شهيداً، كفى بالله وكيلاً.


استحباب كتابة الدين


ليس معنى هذا أنني إن أخذت منك ديناً ألا أكتبه، فإن ذلك كان في شريعة بني إسرائيل، وقد قال علماء الأصول: ( شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه )، وما ورد في شرعنا ما ينسخ هذا الفعل بأن يجعل ربه كفيلاً أو شهيداً وإنما أتى استحباب أن يكتب الناس التداين فيما بينهم في ورقة، نظراً لكثرة الغش الذي يقع: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } [البقرة:282].



وإلا فإن قال: إن أحببت أن نكتب الدين فبها ونعمت، وإن ائتمنتني وجعلت الله عز وجل كفيلاً وشهيداً، فإن الله يقول: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة:283] فالله عز وجل أفسح المجال هنا للأمانة بين الناس، أن آخذ منك المال بدون صك وبدون كتابة فهذا جائز، لكن إن قلت لك: اكتب هذا الدين فلا يجوز لك أن تمتنع، ولا أن تقول: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً.


اليمين على نية المستحلف


جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( يمينك على ما فهم صاحبك ) أحياناً يعرض الرجل ويوري بالكلام وأحياناً يحلف، مثلاً يأتيه رجل فيقول: معك مال؟ فيضع يده هنا ويقول: لا والله ما معي مال، مع أن المال هناك لكنه أشار إلى هنا، فأنت عندما تقول: لا والله، هذه اليمين ليست على قصدك أنت بل بما فهم صاحبك، فصاحبك فهم أنه ليس معك مال قط، وأنت تقصد أنه ليس معك مال هنا، فأنت حانث في يمينك، ولا تقل: أنا قصدي كذا، بل المهم قصد صاحبك، حتى لا تتخذ الأيمان جنة للمعاصي وللخيانة والخداع، فالله عز وجل قد يعاقب الرجل على قصده بنية صاحبه.


قال الله عز وجل على لسان الخضر: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82].

 

عقوبة الخضر لأهل القرية ببناء الجدار


لعلنا نذكر دخول موسى والخضر عليهما السلام إلى القرية: { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } [الكهف:77] دخلوا القرية يطلبون طعاماً { فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا } [الكهف:77] ما هي العقوبة؟ أن يبني الخضر الجدار، وهذه عقوبة؛ لأن الجدار عندما مال وقد وصفه الله عز وجل بصفة الآدمي: { جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ } [الكهف:77] أي: يقع، وكان تحت الجدار كنز، فلو أن الجدار وقع لظفر أهل القرية بالكنز فأخذوه، فلما أقام الخضر الجدار حرم أهل القرية من الكنز، وحفظ الله عز وجل هذا الكنز لليتيمين.


فهذه عقوبة لهما، ولكن موسى اعترض، فقال: { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } [الكهف:77] أي: نأكل به، لكن أن يمنعونا من الضيافة والقرى وهو حق لنا ونحسن إليهم بأن نبني جداراً مجاناً!! فلما أقام الخضر الجدار حمى ذلك الكنز؛ لأنه ليتيمين، واليتيم عند البشر هو فاقد الأب، وعند الحيوانات فاقد الأم، ولكن لا يظل المرء يتيماً مدة حياته، ولا يصلح أن يطلق على إنسان ما أنه يتيم مدة حياته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بسند صحيح: ( لا يتم بعد احتلام ) فإذا بلغ الرجل انتفى عنه مسمى اليتم؛ لأن اليتم هو عبارة عن صفة تلزم عاجزاً، والطفل الصغير حتى يبلغ الحلم عاجز عن الكسب والتفكير، فإذا بلغ أشده واستوى لم يعد بحاجة إلى أبيه، حتى ولو كان أبوه حياً، فهو بحاجة إلى أبيه ما لم يبلغ.


ولذلك في الآية: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } [الكهف:82] فدل ذلك على أنهما كانا يتيمين صغيرين ما بلغا الحلم، فهذان اليتيمان حفظ الله عز وجل الكنز بصلاح أبيهما، وفي هذا دليل على أن الصلاح ينفع الذرية.


أي شيء تفعله يكون لك به لسان صدق، افعل المعروف الآن يبقى لذريتك، قال الله عز وجل: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران:140] أنت اليوم في رفعة ومنعة وغداً في ذل واستضعاف وغيرك في عز ومنعة، هذه سمة لهذه الحياة حتى لا يأمن أحد بها.

الجريدة الرسمية