رئيس التحرير
عصام كامل

استقلال القضاء يحميه القضاء


أصدرت الدائرة «120» بمحكمة استئناف القاهرة المختصة بالفصل دعاوى رجال القضاء حكمها فى الدعوى رقم 3980 لسنة 129 ق بجلسة الأربعاء الموافق 27/3/2013.. وهو حكم قضائى نادر بجميع المقاييس العلمية والقضائية.


أولا. إن إدانة القضاء العادى لقرارات رئيس الجمهورية تأتى لتتمم إجماعا بين جميع الجهات القضائية فى مصر على عدم قدرة السلطتين التشريعية والتنفيذية خلال الفترة الانتقالية على اتخاذ قرارات مشروعة قانونا. فقد سبق هذا الحكم سوابق أخرى من القضاء الإدارى و القضاء الدستورى كانت محلا لدراسة من جانبنا، مما يقطع الشك باليقين حول عدم مشروعية القرارات المتخذة فى ظل هذا النظام. و لكن الأغرب من ذلك أن حمية الجاهلية التى تميز الصراع السياسى فى مصر تنسينا تماما - بما فى ذلك أساتذة القانون- الأهمية العلمية لهذا القضاء.

وكأن علم القانون لا قيمة له وتطوره من خلال هذه الأحكام النادرة لا قيمة له طالما عصف بمصالح خاصة مغرضة!!! ولو صدر هذا الحكم فى فرنسا - شأنه شأن غيره من الأحكام المشار إليها- لا نعقدت المؤتمرات العلمية فى كليات الحقوق لمناقشته ودراسته. أما فى مصر فقد أصبح القضاء المصرى الذى يلاحق اليوم نظيره الأوروبى فى التطور موضعا للإدانه من الألسن المغرضة التى تلوك فى جهل وحماقة قد أعيت من يداويها.

ثانيا. لا يملك أستاذ القانون إلا أن يحيى قضاء استند إلى فكرة حديثة شجاعة تبنيناها فى أبحاث و مؤلفات منشورة بفرنسا منذ سنة ١٩٩٤ وهى فكرة المبادئ فوق الدستورية أو ما يعرف بالفرنسية بالتعبير المصطلح عليه:

ويقصد بذلك المبادئ العامة المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية والضمانات القانونية والقضائية المتعلقة بحماية تلك الحقوق وهى ملزمة ليس فقط للسلطات العامة للدولة بل للسلطة التأسيسية التى تقوم بإعداد أو تعديل النصوص الدستورية. و يرجع و جود هذه المبادئ إلى التطور الواضح فى الفكر الدستورى المعاصر. حيث يخضع احترام هذه المبادئ لرقابة القضاء الداخلى بأنواعه فى إيطاليا وألمانيا والنمسا. و رغم وجود هذه المبادئ أيضا فى فرنسا فالملاحظ هو أن الرقابة القضائية على احترامها ليست داخلية بل خارجية وترجع إلى القاضى الأوروبى : المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان فى ستراسبوج التى تدين الدول الأوروبية لو تضمنت دساتيرها أو تشريعاتها أحكاما متعارضة مع المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان أو محكمة العدل الأوروبية التى تنظر المنازعات الناشئة عن قرارات الاتحاد الاوروبى.

ويتمثل فضل القضاء المصرى فى هذا الحكم فى تسبيبه.. فلم يتردد القاضى فى الرجوع إلى الفقه الدستورى والقانونى الدولى والوطنى للتأكيد على مجموعة من المبادئ التى يتعين أن تلتزم بها الوثائق الدستورية ذاتها - وحتى مع التسليم بأن الوثيقة المذكورة تمتد بآثارها إلى ما بعد الغائها بموجب وثيقة أخرى صدرت فى ٨ ديسمبر ٢٠١٢ - فمع ذلك هناك مبادئ اصطلح على تسميتها "بالمبادئ فوق الدستورية"، وهى التى لا يجوز أن تأتى الوثيقة الدستورية ــ أيا كانت وسيلة إعدادها أو جهة إصدارها ــ بما يخالفها أو أن تسمح بالخروج عنها أو الاستثناء منها فى جميع الظروف والأحوال.

وتأتى فى مقدمة المبادئ فوق الدستورية المستقر عليها مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها دوليا بكافة الوثائق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان والتى فى مقدمتها الحق فى التقاضى وحظر تحصين أى عمل أو قرار من الطعن عليه أمام سلطة قضائية تتمتع بالحصانة والاستقلال الكامل والتى تؤدى دورها بالفصل فى المنازعات وصولا إلى الترضية القضائية العادلة والسوية التى تستقر بها المجتمعات وتصان من خلال الحقوق والحريات ــ والتزاما بذلك وتأكيدا للالتزامات الدولية لمصر والناشئة عن انضمامها للمواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان وحرياته ــ حرصت الوثائق الدستورية المصرية المتعاقبة بما فيها الدستور الجديد الصادر عام 2012 على النص صراحة على تلك المبادئ ومن بينها المبادئ سالفة الذكر ومنها الحصانة المقررة للنصوص الدستورية بل ونص بالمادة 81 من الدستور على تقيد المشرع الوطنى بعدم المساس بأصلها أو جوهرها فيما يصدر عنه من قوانين تتعلق بتنظيم ممارستها وذلك بغية إعلاء دولة القانون وإرساء مبادئ الحكم الرشيد وقيم العدل والحرية والديمقراطية.

ثالثا: من سوء الفهم أو من سوء النيه المفرط القول بأنه يكفى الادعاء بأن عمل ما هو مطلب شعبى ثورى حتى نعصف بدولة القانون فى همجية و بلطجة قانونية غير مسبوقه. و من الغفلة البينة أن ننسى أن من المطالب الشعبية هو عدم العودة إلى نظام فاسد ارتكب مخالفات قانونية ودستورية جسيمة قامت ضدها الثورة. وهنا يرجع البعد الثورى للحكم موضوع التعليق.

فبناء على الإعلان الدستورى الصادر فى 21/11/2012 صدر القرار الجمهورى رقم 386 لسنة 2012 بإقالة النائب العام وتعين السيد طلعت عبدالله نائبا عاما لمدة أربع سنوات. فالطعن محله إذن ليس الإعلان الدستورى ذاته ولكن القرار الجمهورى الذى صدر بمقتضى الاعلان الدستورى وهو عمل تنفيذى محض صادر من سلطة تنفيذية خارج مجال اختصاصها وبدون مراعاة القواعد الخاصة بتعيين النائب العام. لذلك تحديدا جاء هذا القرار مخالفا للقواعد القانونية والدستورية لعدم اختصاص رئيس الجمهورية بإصدار إعلان دستورى و فقا للاعلان الدستورى الصادر فى ٣٠ مارس ٢٠١١ من ناحية ولما نصت عليه كذلك المادة 119 من قانون السلطة القضائية والمتعلقة بعدم قابلية النائب العام للعزل.

رابعا : من الخطأ القانونى أيضا ومن محض الادعاء الزائف القول بأن أى قرار يصدره رئيس السلطة التنفيذية يكفى أن يطلق عليه وصف " إعلان دستورى " حتى يصبح كذلك. حيث لا يتأتى هذا فى نظر المحكمة لاسيما بعد تولى الرئيس شئون الحكم إلا من خلال استفتاء شعبى و فى غياب دستور قائم. و هو فهم صحيح تماما لشكليات نشوء القاعدة الدستورية و إجراءات ممارسة السلطة التأسيسية التى تخلقها (من خلال الاستفتاء الشعبى). وهنا أيضا أصاب الحكم و أخطأ خطأ فادحا أنصار اللوامة.

خامسا: إن الاستمرار فى إنتاج ِآثار العمل القانونى (الإعلان الدستورى) بعد الغائه رهين بسلامة الإجراءات المتخذة بموجبه وبصحتها القانونية.. فمن المستحيل أن نسلم بأن ينتج العمل الباطل آثاره رغم بطلانه القانونى.. وهو ما انتهت إليه المحكمة بالفعل. حيث يتمثل سبب البطلان فى حظر الطعن وحظر اتخاذ هذه النوعية من القرارات من خلال إداة قانونية أدنى مرتبة من الدستور بالمدراج التشريعى هو قرار جمهورى بإعلان دستورى صادر عن السلطة التنفيذية ومتضمنا ما لا يجوز للدستور ذاته أن يتضمنه ومخالفا فى ذات الوقت للوثائق الدستورية السارية والسابقة على صدوره بما فيها الدستور الجديد ذاته.

ومن ثم فإن هذا النص فيما تضمنه من حظر الطعن على الإعلانات والقوانين والقرارات السابق صدورها عن رئيس الجمهورية، لا يشكل فى ذاته مانعا دستوريا أو عائقا قانونيا يحول دون نظر القضاء للدعوى الماثلة فى ضوء الطلبات المطروحة.. ولا ينال من ذلك ما نصت عليه المادة الأولى من القرار الجمهورى الصادر فى 8/12/2012 بإعلان دستورى آخر بإلغاء الإعلان الصادر فى 21/11/2012 مع الإبقاء على ما ترتب عليه من آثار ــ إذ أن ذلك يعنى بطبيعة الحال الإبقاء على الآثار القانونية ــ إن وجدت ــ التى تتفق بداية مع القيمة القانونى للقرار الصحيح وليس مع القرار الفاسد قانونا بالنظر لما انتابه من عيوب شابته بالبطلان. وهى نتيجة يصل اليها القاضى بحكم اللزوم العقلى و فقا لمقتضيات المنطق القانونى ذاته. فلا يعنى ذلك الإبقاء على الآثار التى نتجت عن نصوص فاقدة المشروعية.

سادسا: إن جوهر النزاع فى غاية البساطه: احترام مبدأ استقلال القضاء فى العزل و فى التعيين أيضا. ويجب أن يكون التعيين وفقا للإجراءات المعروفة بقانون السلطة القضائية. ذلك أنه من المقرر أن استقلال القضاء من المبادئ الأساسية التى تنهض بمقتضاها منظومة حقوق الإنسان. ويقوم هذا المبدأ على أساس مبدأ آخر وثيق الصلة به و هو مبدأ الفصل بين السلطات العامة بالدولة الحديثة والذى تقوم عليه بشكل حتمى أنظمة الحكم الديمقراطية ودولة سيادة القانون والحكم الرشيد .

إن مبدأ استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات وكافة مبادئ الحقوق والحريات هى مبادئ مقررة دستوريا ودوليا وهنا تكمن قيمتها فوق الدستورىة. لذا فاستخدام هذه المبادئ بواسطة القضاء العادى واعتبارها قاعدة مرجعية لمشروعية قرار رئيس الجمهورية هو وجه الحداثة المؤكد فى هذا الحكم. ومن الجهل البين والتحزب الممجوج أن نتجاهل أن مصر قد التزمت بهذه المبادئ فى كافة المعاهدات التى تم التصديق عليها و كذلك فى الدساتير والإعلانات الدستورية المصرية المتعاقبة والمنتهية بالدستور الصادر فى ديسمبر عام 2012.
أحمد الله فى النهاية أننى قد قضيت اللوامة رغدا وأديت الأمانة سددا وما كنت متخذا المضلين عضدا.


الجريدة الرسمية