رئيس التحرير
عصام كامل

ذهبوا ليكملوا نصف موتهم.. ماذا عنك أيها المتحجر ؟!


إن كنت من المصريين المحظوظين الذين يتعدى إنفاقهم الشهرى مبلغ 4160 جنيها، فأنت إذن من الذين يحق لهم التشدق بكلمات فضفاضة وعبارات هلامية لوما وتقريعا وتقليلا من شأن من أغرقهم الفقر والبؤس والظلم وضياع الأمل في بصيص من عدل في وطنهم قبل أن يغرقهم مركب رشيد المنكوب.. إن كنت من هؤلاء الذين وصفهم الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء بالطبقة الوسطى والتي تبلغ نحو 15 % من عموم المصريين لك الحق أن تلوم المعدومين والعالقين بهامش شبه الحياة في وطن أصبح الكثيرون منه ينامون بدون عشاء وغذاء وربما إفطار أيضا.. ليس تقرير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء هو موضوعنا، إنما التحول السيئ والمريب الذي أصاب كثيرا من المصريين في خلقهم وسلوكهم ومشاعرهم هو موضوعنا الأهم والأخطر والأكثر كارثية !


كنا فقراء ونعيش في الحوارى ونحمد الله على بساطة كل شىء حولنا، لكننا كنا نراعى شعور الآخرين الأكثر فقرا منا والأشد بؤسا من حالنا، كانت الأمهات الفضليات في شارعنا وحوارينا المتداخلة معه، يقمن بإرسال ما تيسر من طعام، حتى وإن كان (أرديحى) أي بدون لحم أو دجاج، للأسر الأقل حظا والتي لا يضمن عائلها الأرزقى دخلا ثابتا يستر أسرته.. حقا كنا ننام جميعا بعد أن يكرمنا الله بوجبة العشاء.. جميعا كنا كذلك، لا بفضل سعة الرزق والدخل الحكومى أو الخاص ولكن بفضل التكافل الذي كان طقسا اجتماعيا فطريا عند المصريين، كان ذلك بدون أي وازع سياسي أو غرض انتخابى وضيع من أناس دنيئة لا تعرف الله ولا الفقراء إلا عند الانتخابات وحسب.. كان المصريون طيبين بالفطرة.. فماذا حدث لنا حتى صار المستريحون ماديا في مصر. أو من يتوهمون أنهم يملكون القليل للكافى لسترهم يحتقرون من لا يملك ولا يستطيع أن يملك، ومن لن يُقدر له أن يمتلك شيئا يوما ما في وطن مقسمه خيراته بين فئة محددة متداخلة بفعل المصاهرة والمصالح والفساد !

غرق ما يقرب من 200 روح في مياه البحر، بالطبع كان الرد الحكومى الرسمى هزليا وتافها ومتهافتا ومخيبا للآمال كعادته، لم يجد المصريون البؤساء من يعزيهم رسميا مثلما ذهب أسد الخارجية المصرى السيد سامح شكرى بنفسه لإسرائيل متأثرا متشحا بالسواد مكفهر الوجه لتقديم واجب العزاء في قائد مذابح صبرا وشاتيلا، مجرم بحر البقر شيمون بيريز، لم يجدوا نائبا من مجلس نواب الحكومة يذهب ليواسى الأهالي المكلومين في فقد أبنائهم، حلمهم الذي ابتلعته الأمواج بعدما أنهكته سياط الفقر والعوذ والقهر.. فقط وجد هؤلاء الشماتة من السادة المستورين في بر مصر التي كانت محروسة بقيم وخلق وتعاطف وتكافل وإنسانية أهلها.. وجدوا اللوم من شيوخ المساجد في معظم مساجد مصر بعدما أمرتهم وزارة الأوقاف بذلك.. كل ذلك متوقع، لكن أن يشمت فيهم بعض المصريين العاديين من غير ذوى السلطة أو النفوذ أو الثراء فهذا هو العجيب حقا.. كيف تحجرت المشاعر وتدنت القلوب قسوة وغلظة وظلاما!

كنا ننتظر لا شىء أكثر من التعاطف، فقط تعاطف مع هؤلاء المساكين، قل خيرا أو اصمت.. لا تذرف دمعا عليهم عله جف عندك، لكن لا تقتلهم بسياط النقد وبحدة كلماتك المهينة عن الجشع والتهلكة وهذا الكلام الأعمى.. لكن يبدو أن التقسيم الطبقى الذي ابتدعه السادات منذ بداية السبعينيات للقضاء على روح عدالة عبد الناصر وكل ما قام به من مشروعات اجتماعية تنتصر للفقراء، قد نجحت في خلق فواصل نفسية بين المصريين.. نعم صرنا غرباء عن بعض، فمن يذهب بابنه لمدرسة خاصة تكلفه بضعة آلاف سنويا ينظر باحتقار لمن هم في مدارس الحكومة أو كما يسميها الكثير منهم، مدارس الغلابة، أما مدارس أولاد الناس الممتدة من عصر المماليك مجهولى النسب، فهى متدرجة حسب قيمة المصروفات والغريب أن كل فئة في التقسيم الطبقى المتعدد في مصر حسب درجة الدخل والثراء الحرام منه والحلال وإن كان في غالبيته غير مشروع أو سيئ السمعة، ينظر باحتقار وشك وريبة لمن هو أدنى منه! والطامة الكبرى أن البعض منهم يتمنى زوال الطبقة التي تليه حتى يبقى ولاد الناس فقط من فئته في المقدمة.. صار حقا البقاء للأسوأ والأكثر حقدا وسوادا واحتقارا لمن هو أدنى منه !

صار من يصيف في مارينا يحتقر من يصيف في الإسكندرية مثلا وفي الشواطى العامة المجانية اسما بعدما باعتها الحكومة لثلة من تجار الهواء والماء، لكن المثير والمقزز والمخزى أن هؤلاء أيضا موضع احتقار عند من لديهم قرى سياحية خاصة بطول مصر وعرضها رغم ما ينشره بعض ملاكها من صور تنشأ بالانحلال والتجرد من كل قيمة عرفها المصريون على اختلاف بيئاتهم المحلية والمذهبية !

هؤلاء لا يعرفون أغلبية الشعب الذي يحيط بهم من بعيد، لا يعرف مصايف أو استجماما، فقط يعرف رغيف خبز على البطاقة... يعرف كيلو زيت يحصل عليه بالواسطة من البقال التموينى، يعرف أن يعود نفسه على شرب الشاى مرا كمراراة أليمة لارتفاع كيلو السكر لــ 11 جنيها، يعرف كيف "يقيف" ملابس أولاده الكبار لمن هم أصغر منهم.. يعرف كيف يحتال على (تقضية) اليوم بدون خسائر إنفاقية جديدة.. كيف لهؤلاء المترفين إذن أن يعرفوا أسر رشيد وضحاياها الذين ذهبوا للبحر أملا في النجاة أو ليكملوا نصف موتهم وينهوا المأساة مبكرا.. رحمهم الله ورحمنا.
Fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية