رئيس التحرير
عصام كامل

مصر بين الأسلمة والعلمنة (1)!


على العكس من الكثيرين الذين يرون أن خلافًا كبيرًا، وعداوة عظيمة بين المتطرفين من الإسلاميين، والعلمانيين، أعتقد أنا ألّا خلاف بينهما البتة، ولا عداوة بالمرة، بل علاقة تكامل تصل إلى حد التوءمة!


فالعلمنة تبدأ بإقناع الناس أنها مبعوثة السماء لإنقاذ الدين من تطرف المتطرفين، وإرهاب المتحدثين باسم الرب الجليل، والمسيئين إليه، وتكون هذه هي المرحلة الأولى للعلمنة، والتي لا يمكن أن توجد إلا بعد أن تكون الأسلمة قد مهدت لها الطريق، فإذا تمت لها الخطوة الأولى انتقلت هي إلى الخطوة الثانية، وكشفت عن وجهها القبيح-كما تكشف الأسلمة عن وجهها القبيح أيضًا-، وسعت إلى هدم الدين مباشرة، ونقضه حجرًا حجرًا !

فهما معًا يعملان منذ القدم ضد الإسلام بالتوازي، ولكن كلٌ بطريقته في طريقين متوازيين، لا يتقاطعان، وكل فريق منهما يخدم الآخر، ويصحح تصرفاته، وانحرافاته، ويستغل الفريقان أفكار بعضهما لتبرير الوجود.

فالإسلاميون يستغلون تطرف العلمانيين ضد الدين، ومحاربتهم له ليتقمصوا دور المدافعين عن الدين، وحماة حمى الشريعة، والذابين عن حياضها، بل، ويمنّون علينا بأنه لولاهم لكان العلمانيون نسفوا الدين، ودمروه، ويستغلون هجوم العلمانيين على ثوابت الدين، وقِيَمه في تبرير تأصيل، أو "شرعنة"! التكفير، والتطرف.

والعلمانيون يستغلون تطرف الإسلاميين، ووحشيتهم، وإرهابهم، وكذبهم، ونفاقهم ليثبتوا صحة أقوالهم، ونظرياتهم عن الدين، فينفروا الناس منه، ويصمونه بكل نعوت السوء، وصفات العار، فالدين الذي يجسده الإسلاميون هو دين تكفير، وإرهاب، ووحشية كذب، وخداع، ونفاق، ولذلك يحق لهم –زعموا- أن يهاجموا الدين، أو يهدموه! كما يجب على الناس أن يتركوه !

فالإسلاميون إنما يعملون على خلق المبرر للعلمانيين لمهاجمة الدين، وتشويهه، كما أن العلمانيين يخلقون المبرر للإسلاميين لاستغلال عواطف الجماهير الجياشة تجاه الدين كي يظهروا بمظهر المدافعين عن الإسلام، ويصورا أنفسهم كأصحاب فضل على الإسلام، والمسلمين، وأنه لولاهم لاندثر الدين على أيدي هؤلاء المحاربين له.

واعتبر بالهجمة الشرسة التي يقوم بها العلمانيون الآن عبر وسائل الإعلام الصحافة على الإسلام، والثوابت، والتراث، والقِيَم منذ سقوط الإخوان في المشهد الأجلّ في تاريخ مصر في اليوم المشهود: ( 3/7/2013 م)، والتي لا أشك لحظة في كون تلك الهجمة العلمانية ممنهجة، ومدبرة، ومقصودة، وأن الذين يقومون بها إنما يلعبون دورًا مشبوهًا لصالح الإخوان، من أجل تصحيح حجة الإخوان الداحضة، وعلتهم العليلة بأن القضية لم تكن في الإخوان، وإنما هي في الإسلام، وأن الثورة كانت على الإسلام، لا الإخوان، وأن الإخوان تم استئصالهم من الحكم لأنهم يمثلون الإسلام، ويسعون لتطبيق أحكامه.

ومع كون هذا الزعم أبعد عن الواقع مما بين المشرق، والمغرب، إلا أن الإخوان يروجون له على أعلى المستويات بين أتباعهم، وعبر إعلامهم، وما يفعله العلمانيون، وأرباب الهجوم على الثوابت، والقيم، والأخلاق، والتراث الحضاري للمسلمين، إنما يصحح، ويثبت لهم هذا الزعم الكاذب، فالهجوم العلماني على الدين، والذي يتزامن مع إزاحة الإخوان عن الحكم، يظهر الواقع في مصر، وكأن الإخوان هم من كانوا يصدون الهجوم على الدين، وأن وجودهم في السلطة كان لهدف حماية الشريعة– على خلاف الحقيقة بالقطع-، وليبدو الأمر، وكأن المراد كان الثورة على الإسلام لا الإخوان.

ليتبقى الواقع أن: الإخوان يزعمون أن الهجوم على الإسلام، لا على الإخوان، وأن الثورة كانت على الإسلام، لا على الإخوان، والعلمانيون بهجومهم على الإسلام إنما يصححون لهم تلك النظرية الكاذبة، ويقدمون لهم المبرر لأفعالهم على طبق من ذهب، في إطار من التعاون، والتناغم المريب !

والحقيقة التي لا تخفى على عين الفاحص أن لتلك الهجمة الشرسة التي يقوم بها منتسبو العالمانية على الإسلام كدين، وحضارة، وعلى ثوابته، وقيمه، وعلى تراث المسلمين الحضاري، والذي هو من أعظم –إن لم يكن أعظم- أسباب تماسكها، ومقاومتها لحملات الغزو عبر التاريخ منذ إزاحة إخوان الشياطين عن الحكم عدة أسباب، وبواعث منها:

* مناخ الحرية الذي تضاعف في مصر بعد إزاحة خوان المسلمين، مما دفع البعض إلى استغلاله أسوأ استغلال نظرًا لأمنهم العقوبة، فتجرأوا على الدين، والقِيَم، ودعوا إلى هدم الدين من أساسه.

* وكذلك كانت الأريحية المتوفرة لدى لدى المصريين للهجوم على الإسلاميين بعدما كشفوا عن وجههم الحقيقي الإرهابي القبيح، سببًا مباشرًا جرّأ العلمانيين على تجاوز الإسلاميين إلى الهجوم على الإسلام ذاته.

* ويبقى السبب الثالث، والأهم من وجهة نظري، وهو ما تقوم به مصر منذ تحررت من حكم الإرهاب في (3/ 7) من السعي إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الغرب المستعمر، ولأول مرة في تاريخها المعاصر، وهو ما دفع الغرب لاستخدام كل أدواته، وإخراج كل ما في جعبته لمنع استقلال مصر، وتحررها اقتصاديًا، فكانت حيلة الغرب الخبيثة في إضعاف مقاومة مصر، ومقاومة مقومات المقاومة، والتفوق الذي تملكه ألا، وهو مخزونها الحضاري، والمتمثل في دينها، والذي يمثله تراثها، والذي هو سلاحها الذي به تقاوم، وبه تحارب، وبه تقاتل، وبه تنتصر إن شاء الله.

كانت خطة العدو الواضحة هي إضعاف قوتنا عن طريق إضعاف عوامل القوة التي نمتلكها كي تنهار مقاومتنا فنستسلم له مرة أخرى.
ذلك أن الأمة– أيَّ أمةٍ- عند المحن، وأثناء سعيها نحو المستقبل، فإنها ترجع لتاريخها تستخرج منه العبر، وتستضيء به ليُنير لها طريقها نحو المستقبل.

فكان المطلوب –غربيًا- أن يتم تشويه التاريخ، والقضاء على الماضي، حتى إذا عادت إليه لم تجده شيئًا، أو حتى لا تعود إليه بالأساس.

فكان المراد أن تقتنع هذه الأمة المصرية أنها أمة متخلفة بذاتها، ولذاتها، وأن تخلفها ليس حالة عارضة يمكن أن تتجاوزها، وإنما هي متخلفة لأنها تمتلك هذا التاريخ، وهذه الحضارة، أو بالأحرى هذا الدين، والذي به تقاوم، وهو ما يجعلها تفقد مقاومتها، وتذعن للغرب، وتستسلم له، وتظل على حالتها، وعلى تخلفها، وعلى فقرها، وجهلها، ومرضها، ذلك أن من يستحق أن يخرج من هذه الدائرة هو السيد الأبيض وحده، والذي يمتلك مقومات النجاح، والتفوق دون غيره !

قد أكون هوّمت بالقارئ المكرم بعيدًا عن السياق في ظاهر الأمر، ولكنها الحقيقة المرة، والتي هي أهون ألف مرة من وهم يريح، ثم يضر.

والحقيقة المرة هي أن مصر وقعت منذ عقود طويلة بين شقي الرحى، بين من يزعم أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، وأنه المخوّل وحده بالحديث باسم الرب الجليل، وألَّا خلاص لمصر سوى بالسير في ركابه، وبين من يزعم أن مبعوث العقل ليخلص مصر من ظلمات الإسلام الذي ظل يخيم عليها لقرون، وألا خروج لمصر من محنتها إلا بقتل الدين والتخلص منه إلى الأبد.

والطرفان في الحقيقة كذلك، كما أنهما حرب على الإسلام، فهما أيضًا حرب على مصر ذلك البلد الآمن الطيب أهلها، المحب للسلام، والخير الذي حض عليه الدين.
وفي الأُسْبُوعِ القادمِ... للحديثِ بقية... إنْ شاءَ ربُّ البرية.
الجريدة الرسمية