رئيس التحرير
عصام كامل

المستبد المستنير..إسماعيل باشا


ولد إسماعيل باشا أول من لقب بلقب خديوي مصر-في 31 ديسمبر 1830 بقصر المسافر خانة بحى الجمالية بالقاهرة، وهو الابن الثانى لإبراهيم باشا ابن محمد على باشا.


تولى إبراهيم باشا حكم مصر عام 1848 بعد أن قررت الأسرة العلوية خلع محمد على باشا بعد إصابته بداء الخرف (ألزهايمر). كان إبراهيم باشا مصابا بالسل في مراحله المتأخرة وتوفى بعد ستة أشهر من توليه الحكم، وذلك في نوفمبر 1848 (توفى محمد على في أغسطس 1849 بقصر رأس التين بالإسكندرية) وكان نظام وراثة الحكم الذي أقره محمد على أن يتولى أكبر أبناء العائلة سنا فتولى الحكم عباس باشا الأول بن أحمد طوسون بن محمد على الذي كانت سنوات حكمه الخمس أسوأ فترات العائلة العلوية بأكملها حتى قتل في القصر الذي أقامه في بنها في الأغلب على خلفية محاولته تغيير نظام توريث الحكم ليذهب لولده إلهامى باشا..

من بعده خلفه عمه محمد سعيد باشا بن محمد على عام 1854. وكان سعيد باشا مثقفا تعلم في فرنسا وحاول استعادة مجد أبيه فوافق على حفر القناة وأتم سكة حديد الإسكندرية ومنح الفلاحين حق التملك في قانون أصدره 1858 وحدد مدة الخدمة العسكرية بعام واحد وجعلها إلزامية على الجميع، وألغى دفع الجزية عن غير المسلمين وأصدر لائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين وأصلح القضاء ومجلس الأحكام ومنع خروج الآثار من مصر.

إلا أن سعيد وربما متأثرا بمحاولات عباس في تغيير نظام الحكم كان يخشى زوال ملكه ويخشى من وجود أي منافسة سياسية فأغلق المدارس العليا، قائلا قولته الشهيرة: "أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة." وشارك الجيش المصرى في عهده في حرب القرم ضد محاولات روسيا التوسعية وفى حرب المكسيك إلى جانب حليفه نابليون الثالث إمبراطور فرنسا.

تعلم إسماعيل مبادىء العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية في القاهرة، بالإضافة إلى القليل من الرياضيات والطبيعة ثم أرسله والده وهو في سن الرابعة عشر إلى فيينا عاصمة النمسا للعلاج من إصابته برمد صديدى وأيضًا لاستكمال تعليمه، وبقي في فيينا لمدة عامين ثم التحق بالبعثة المصرية الخامسة إلى باريس وكان من بين تلاميذها شقيقه الأكبر الأمير أحمد رفعت والأميرين عبد الحليم وحسين وهما من أبناء محمد على، وفى باريس درس علوم الهندسة والرياضيات والطبيعة وأتقن اللغة الفرنسية إلى جانب العربية والإنجليزية والتركية والفارسية وتأثر بالثقافة والمعمار الفرنسي.

عاد إسماعيل إلى مصر في عهد ولاية والده إبراهيم باشا وكان الأمير إسماعيل يكره ابن عمه عباس حلمى وبعد وفاة والده ثم جده محمد على اشتد الخلاف بين الأمراء بشأن تقسيم ميراث محمد على وسافر إسماعيل وبعض الأمراء إلى الأستانة فعينه السلطان عبد المجيد الأول عضوًا بمجلس أحكام الدولة العثمانية وأنعم عليه بالبشاوية ولم يعد إلى مصر إلا بعد مقتل ابن عمه عباس وتولى عمه محمد سعيد.

لقي إسماعيل من عمه سعيد عطفًا كبيرًا وعهد إليه برئاسة مجلس الأحكام وأرسله سنة 1855 إلى الإمبراطور نابليون الثالث بشأن توسيع نطاق استقلال مصر بعد اشتراكها في حرب القرم، فأدى إسماعيل تلك المهمة ووعده نابليون الثالث بتأييد مقترحه في مؤتمر الصلح بباريس، ولكنه لم يحقق وعده. ثم أرسله سعيد باشا في جيش تعداده 14000 إلى السودان لتثبيت دعائم الحكم فيها.

وبوفاة الأمير أحمد رفعت أصبح إسماعيل وليا للعهد وتولى ولاية مصر بوفاة سعيد باشا في يناير 1863.

كان إسماعيل طموحا يسعى لتحقيق حلم جده محمد على في إنشاء إمبراطورية مصرية مستقلة على النظام الفرنسى. وكان يؤمن كجده أن التعليم هو الطريق الوحيد لنهضة الأمم فزاد من الإنفاق عليه وأنشأ المدارس الأميرية وتحمل فيها تكلفة دراسة الطلاب ووقف الأراضي على التعليم، وكلف على مبارك بوضع أول قانون للتعليم وأنشأ مدرسة السنية أول مدرسة للبنات عام 1873 وأنشأ مدرسة دار العلوم لإعداد المعلمين وفى عهده ظهرت الصحف كالأهرام والوطن ومجلة وروضة..كما أنشئت دار الكتب ودار الآثار والجمعية الجغرافية.

في عهد إسماعيل تحولت الدواوين إلى نظارات (وزارات) وأنشئت المجالس المحلية وألغيت المحاكم الأجنبية (القنصلية) وتحولت إلى محاكم مختلطة بها قضاة مصريين وحول مجلس المشورة الذي أسسه جده محمد على باشا إلى مجلس شورى النواب وأتاح للشعب اختيار ممثليه وافتتحت أولى جلساته في 25 نوفمبر 1866.

عمل إسماعيل على زيادة الرقعة الزراعية فحفر ترع الإسماعيلية والإبراهيمية واستكمل حفر القناة وافتتحها في احتفال أسطورى وأنشأ 19 مصنعا للسكر وأنشأ القصور وأهمها سراي عابدين ودار الأوبرا، وأيضا الطرق ومد خطوط البرق والبريد وطور السكة الحديد.

كما سعى لاستقلال مصر وتوريث الحكم لبنيه فاشترى لقب خديو وغير نظام ولاية العهد مقابل زيادة الجزية عام 1876. إلا أن الطموح الجامح لإسماعيل أخرجه عن الواقع وجعله يلجأ للاستدانة للصرف على تحقيق حلمه الذي تجاوز إمكانات البلاد وتعدى أولوياتها، حتى إنه اقترض خلال سنوات حكمه الثمانية عشرة 3 مليارات فرنك أي نحو 120 مليون جنيه وهو مبلغ خرافى بمقاييس ذلك الزمان (كانت موازنة مصر السنوية حينها نحو 9 ملايين من الجنيهات)، وبفوائد باهظة حتى إنه استدان لسداد فوائد الديون والأدهى من هذا أن فساد الحاشية والسماسرة والذين احتكروا كل المناقصات والتوريدات بأمر الخديوي جعل أحد المؤرخين المعاصرين له وهو الفرنسى جابريل شارمز يقول إن نصف قيمة القروض لم تدخل أصلا إلى الخزانة بل استولى عليها الوسطاء والحاشية.

وبعد رهن أسهم القناة مقابل 4 ملايين جنيه في 1870 جاء قرض أوبنهايم عام 1873 (32 مليون جنيه بفائدة 28%) ليكون كالقشة التي قسمت ظهر البعير، حيث توقفت الحكومة المصرية تماما عن سداد الديون في عام 1875 وشكل الدائنون لجنة التحقيق في 1878 لبحث أسباب إفلاس مصر، والتي وقعت على دلائل فساد مذهلة من أمثلتها فاتورة خياط لإحدى الأميرات قيمتها 150 ألف جنيه إلى فاتورة إصلاح ميناء الإسكندرية بضعف ما تم إنفاقه عليه وملايين سجلت كهدايا لحاشية السلطان.

ضغطت الدول الأوروبية على السلطان العثمانى الذي أبرق إلى إسماعيل بعزله وتولية ابنه وولى عهده الأمير توفيق واليا على مصر، فغادر إسماعيل بعدها بثلاثة أيام إلى نابولى ثم انتقل إلى الأستانة ليقضى بها بقية عمره حتى توفى في مارس 1895.

الجريدة الرسمية