رئيس التحرير
عصام كامل

الفقراء.. وسياسات الاستعباد الضريبي


لم تفاجئني الحكومة المصرية بقانون "القيمــة" المضافة الذي قد يتسبب في ارتفاع أسعار السلع من 40 إلى 70%؛ نظرًا لارتقاع القيمة الضريبية إلى 14 % بدلا من 10 % حسب قانون الضريبة على المبيعات، وتراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن ضبط الأسواق.. ناهيك عن جَشع التجار وسعيهم الحثيث لاحتكار كل ما هو أساسي.. فقد استخدمت الدولة على مدى التاريخ أسلوبين لــ"تركيع" الشعوب:


الأول "تجهيل" الشعب كما حدث قديمًا في العصر الرومانى وحديثًا في عهد الخديوِ إسماعيل، والثانى يكمن في "قَهر" الشعب وتجويعه؛ من خلال تطبيق حزمة من السياسات الضريبية التي تستنزف قدرة الشعب على إشباع احتياجاته، أو لجَعلِه مُنشغلًا عن أمور الحكم والسياسة بالبحث عن لقمة العيش!

لقد أعادني تطبيق هذا القانون مجددًا إلى قراءة التاريخ.. أولًا لأعرف هل عاشت مصر تلك الظروف من قبل..وهل شهدت تطبيقًا لهذه السياسات في تاريخها القديم.. وكيف تمكنت الدولة من تطبيق هذه السياسات.. وما هى الظروف التي دفعت الدولة إلى "حَلب" الشعب.. ورصد ما آلت إليهِ أحوالُ الشّعبَ من جراء تطبيق هذه السياسات المُجحفة.. وهل قرأ النظام الحالي ما كتبه السابقون عن "بوائق" تلك السياسات.. ولماذا لم يستفِد منها في التعامل مع "أمزجة" الشعب.. وهل حينما طَبَقَّت الدولة تلك السياسات كانت تتخذ طريقها نحو النهضة والتنمية، وتعبر بحق عن نِيَّتَها الصادقة في الأخذ بالمسلك الديمقراطي، أم أنها كانت دولة "قمعية" نظامها ديكتاتوري؛ سَلَّم البلاد إلى "مجاعة" كبيرة؛ خرجت منها مصر لتجد نفسها في قبضة مستعمرٍ جديد!

لقد أورد لنا التاريخ نصوصًا عبرت بصدقٍ عما كان يعانيه المصريون من وَيلِ حالات "الاستنزاف" الضريبي، التي كانت تمارسها الأنظمة الحاكمة.. فها هو"الفلاح" الفصيح يقف شامخًا أمام الملك "منقرع" ينقل شكوى الفلاحيين، ويتهمه بالضلوع في مسلسل التجويع، من خلال إتباع سياسات ضريبية غير عادلة، فيقول: "إن ابن امرئ أعمى عما يرى.. أصمُ عما يسمع.. يا مدينةً بغيرِ عَمَد.. وجماعةً بغيرِ رئيس.. ويا سفينة بغير رَبَّان.. وفريقًا بغير قائد.. أنظر: إنك لصٌ، حاكم بجهل الفلاحيـــن.. ورئيس مقاطعة يجب عليه القضاء على النهب.. ولكنك تشبههم.. إن لم تكن نموذجًا لهم.."، وكأنه أراد أن يقول له إنك لست غريبًا عما يُفرض علينا من ضرائب وما تمارسه حاشيتك من عمليات للاستنزاف والنَّهبِ المنظَّم.. وإن كنت لا تعلم فـ"أخطاء حاشيتك لا تُعفيك مِن المسئولية"!

وحينما أصمَ الفراعنة آذانهم وغَضَّوا طَرفَهم عن حالات التجويع التي تمارسها الحاشية؛ هَدَرَ صوت الجوعى كالشلال ومارسوا ضِدهم أسوأ أساليب "التجويع السياسي"، فانقلبت البلاد –حسب برديات الحكيم إيبور– إلى عصابات، وأعلن العمال العِصيّان المَدنى؛ فتوقف الفلاحون عن الذهاب إلى الحقول، والعمال إلى المعابد، وامتنع الشعب عن دفع الضرائب، وحينما استعلَّى الحكام؛ ثار المصريون ولم يتوقفوا إلا بعد أن أسقطوا أسطورة "الحاكم الإله"!

والغريب في الأمر، أن معظم الأنظمة الضريبية التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة لم تُفضِ إلى تَحسنٍ ملحوظ في حياة المصريين.. بل عادة ما كانت تنقلهم من سيئ إلى أسوأ.. فعادة ما كانت هذه الضرائب تتعرض للسرقة والسطو من كبار المسئولين في الدولة، والقائمين على جبايتها دون رادع أو رقيب؛ مما تسبب في إفلاس الدولة وإصرارها إلى فرض المزيد من الضرائب تحت مسميات مختلفة.. رغم أن الدولة لم تعد قادرة على تقديم خدمات تستحق أن يُجمع لها ضرائب ! وعمومًا فإن لم يُقَابَل فرض الضرائب بتحسنٍ في حياة الشعوب، فإن فرضها يعد نوعًا من الاستعباد!

ومن ثم فلم تكن الضرائب يومًا مدخلا فعالا لتحسين حياة الشعوب.. بل كانت مصدرًا مهمًا لثورة الشعوب ضد حكامها.. فإذا كانت ضريبة "المَلح" التي أقرتها الحكومة الفرنسية مصدرًا مهمًا لقيام الثورة الفرنسية.. فقد انتفض المصريون ضد رجال الخديو إسماعيل حينما فرض ضريبة "الزواج" ومنع "دَفنَّ" الموتى، دون أن تُسَدَّد مستحقاتهم الضريبية!

لقد تفننت حكومات العالم في فرض الضرائب، فمع نمو وتزايد وتنوع احتياجات الدول؛ تنوعت معها أشكال الضرائب حتى أصبح بعضها مثيرًا للسخرية، ففي روما كانت الضرائب تُفرض على استخدام المراحيض العامة، وفي "بريطانيا" هناك ضرائب على الهواء، يدفعها أصحاب المنازل الفخمة، وفي "بشكيريا" كانت الضرائب قديمًا تُفرَض على لون العينين! أما في دول "غرب أفريقيا" فقد فرضت الحكومة ضريبة "العَيّش" في أمنٍ وسلام!

وسجلت الوثائق التاريخية أن "الرومانين" بلغوا في تعاملاتهم مع المصريين حدّ الغِلظة.. لدرجة أنهم كانوا يُنزلون العقاب بأقارب وجيران من فرَّ لعجزه عن دفع الضرائب.. بل عادة ما كان يعاقب المتهرب بالقتل! أما "البطالمة" فقد طبقوا قانون "الالتزام" في جمع الضرائب.. الذي يقضى بمصادرة أموال الفلاح وممتلكاته لحين إيفائه بالالتزام.. الأمر الذي دفع الفلاحيــن إما إلى "الفِرَار" من القرى أو "التنازل" عن جزء من ممتلكاتهم لإعفائهم من الالتزام! ربما كان ذلك مريرًا.. ولكن الأمرَ قد يصبـح أكثر مرارة؛ إذا عَرَفت أن العثمانيين فرضوا ضريبة لعلاج "أسنان" رجال الدولة التي تسوست؛ نتيجة أكلهم ليلًا للحلوى واللحوم غير المطبوخة!

والواضح أن "البراجماتية" كانت هي الشكل المفضل للعلاقة بين الدولة والشعب على مر التاريخ.. لم يفرق معها ما إذا كانت الدولة فرعونية أو بطلمية أو رومانية أو حتى إسلامية، فلا ينسى التاريخ أن مصر التي حرم رجال الدين فيها "الرَقص" الشرقى.. فرضت ضريبة على بيوت "الدعارة" في الأربعينيات.. كما أنها أول دولة فرضت ضريبة على "الرَقص" الشرقى الذي يجلب لخزانة الدولة سنويًا قرابة 400 مليون دولار.. وهى في ذلك لا تختلف كثيــرًا عن "ألمانيا" التي فرضت ضريبة على كل أشكال الرشوة!

وحقيقة الأمر أننى لست ممانعًا لفرض الضرائب، لكننى "مُعتَرِض" على الطريقة أو المنهج الذي تجمع به، وكذلك على "مَصَارِف" أموال الضرائب، التي غالبًا ما يذهب جزءٌ كبيرٌ منها كمكافآت لكبار رجال الدولة.. وأن جمعها لم يخفف عبئا عن الفقراء.. وكان يجب على الدولة قبل أن تفرض الضريبة؛ تدرس قدرة الشعب على السداد، وكذلك حجم وقيمة الخدمات التي تقدمها للشعب مقالبل الضريبة.. فإن لم يكن الشعب قادرًا على الدفع؛ فسوف يتحول النظام كـ"حالب" للضِرعِ الجاف.. لا يناله منه سوى الركل!
الجريدة الرسمية