رئيس التحرير
عصام كامل

المستبد المستنير..محمد علي باشا


شهد تاريخ مصر الحديث ثلاث محاولات لإحداث نهضة شاملة واستعادة أمجاد الدولة المصرية وماضيها التليد قادها محمد على باشا والخديوي إسماعيل وجمال عبد الناصر رحمهم الله. وتشابهت المحاولات الثلاث في رغبة الحاكم في بناء دولة قوية في ظروف صعبة سياسيا واقتصاديا.


كانت المرة الأولى في العقد الثالث من القرن التاسع عشر إبان حكم محمد على باشا وقد بدأها بالقضاء على الفاشية السياسية لطبقة المماليك التي كانت تسيطر على مقاليد السلطة في البلاد وتتحكم في كافة شئونها معتمدة على امتلاك السلاح لتركيع المدنيين والسيطرة عليهم وبرغم أن محمد على كان جنديا ولد في اليونان لأسرة ألبانية وذو خلفية عسكرية واضحة إلا أنه رأى أن استمرار سيطرة فئة على الحكم يفصلها عن الشعب ويزرع الكراهية في نفوس الأقلية ضدها وهو ما جعله يخطط للقضاء على المماليك في مذبحة القلعة.

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع أسلوب محمد على في إنهاء سيطرة المماليك فإن ما يهمنا هو كيفية بنائه لمصر الحديثة. وبرغم أن المسعود بن إبراهيم أغا القللى الملقب بمحمد على باشا كان أميا إلا أن أول اهتماماته كان التعليم، فبمجرد الانفراد بالسلطة بعد القضاء على الزعامة الشعبية بنفى عمر مكرم إلى دمياط في 1809 والتخلص من المماليك في مذبحة القلعة 1811 وعكس ما يروجه البعض من أن أول اهتمامه كان بالحرب والسلاح، فقد بدأ محمد على بإرسال البعثات إلى أوروبا بداية من عام 1813، حيث أوفد عددا من الطلبة إلى ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما لدراسة الهندسة والطباعة وبناء السفن، بالإضافة للعلوم العسكرية ثم أتبعها ببعثات لفرنسا وإنجلترا.

كانت البعثات الأولى صغيرة، حيث كان جملة من بعث خلالها لا يتعدى 28 طالبًا، وكان منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري، ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق التي أصبحت المطابع الأميرية فيما بعد.

ثم بدأ إنشاء المدارس العليا في عام 1816 بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران (هندسة مدنية). وفي عام 1827 أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة، وأخرى للقابلات عام 1829. ثم أنشئت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية، ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836، ومدرسة الزراعة بنبروه عام 1936 ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب عام 1837، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع عام 1839 وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا في عهده نحو 4،500 طالب.

وكانت أعداد البعثات تزداد باطراد مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة ثم حملة ثانية عام 1828 إلى فرنسا، وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلترا والنمسا، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832.

وشهد عام 1844، أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم "بعثة الأنجال" لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد على واثنين من أحفاده. كان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات، ضمت 319 طالبًا وبلغ إجمالي ما أنفق عليهم أكثر من ثلاثمائة ألف جنيه (تم سك الجنيه المصرى 1836 وكان يعادل نحو 10 جرامات من الذهب). وفى عام 1837 تم إنشاء ديوان المدارس ونشر المدارس الابتدائية في ربوع الوطن بعد أن كان الأزهر هو مكان التعليم الرئيسى.

لم يكتف محمد علي بما يفعله في الحياة المدنية بل كان يرسل مع كل حملة عسكرية بعثة علمية لتكتشف ما تصل إليه هذه الحملات التي انطلقت لتضم السودان وأجزاء من الحبشة والصومال وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام حتى أغرته قوته بالتفكير في غزو الأستانة فوقع في براثن المؤامرة الشهيرة.

آمن محمد على أن العلم هو أهم وسائل النهضة رغم أنه ظل أميا لا يقرأ ولا يكتب حتى بعد الأربعين وبعد أن اعتلى العرش، لكنه أصر على أن يتعلم وأن يجعل التعليم هو غايته وأساس دولته. ومن ذلك نستطيع أن نقول إن حكم محمد على كان حكما فرديا إلا أن اهتمامه بالتعليم والتنظيم الإدارى للدولة وإنشاء المؤسسات هو الذي أقام أسس مصر الحديثة، وإن كان قليل العلم فقد كان مستنيرا منيرا لبلد كانت نسبة الأمية فيها تفوق 95% انتشلها من ظلام الجهل والتخلف حتى جعلها أهم وأكبر قوة إقليمية.
الجريدة الرسمية