رئيس التحرير
عصام كامل

ولو سألوك عن التسعيرة الجبرية قُل لهم: ابقوا قابلونى!


لا أعتقد أن فرض التسعيرة الجبرية على التُجار في ظل الظروف الطين التي نعيشها بسبب ارتفاع الأسعار يُمكن أن يجيب نتيجة لسببين: الأول هو أننا في زمن التاجر اللى بيخاف ولا يختشيش، وبالتالى فهو لن يلتزم بالتسعيرة الجبرية ـ حال فرضها من جانب الحكومة ـ إلا لو وقف له قسم بوليس بضُباطه وصولاته وعساكره وقبلهم المأمور فوق راسه من ساعة ما يفتح المحل لحد ما يقفله، أقول قسم بوليس لا مُجرَّد بوكس بضابط وأمين وجُنديين وسائق فحسب!


السبب الثانى أننا كمواطنين لن نلتزم أيضًا بهذه التسعيرة الجبرية، فمُعظمنا لا يسمح له برستيچه وهو ماسك العلبة المارلبورو والولاعة وسلسلة المفاتيح المليانة دليل على ثروته العقارية والميكانيكية والحتة السامسونج الخمسة بوصة ونُص، كُل هذا البرستيچ لا يسمح لك أن تسأل التاجر أو البائع باستنكار عن سبب إضافة اتنين جنيه فوق سعر العدس، أو أن ترفُض شراء كارت الشحن أبو مائة جنيه لأنه يُباع بأغلى من سعره بخمسة جنيهات، مُشكلتنا في أن البرستيچ سيقف عائقًا، والمُشكلة الأنقح إن لو حَد فينا قلع برستيچه هذا علشان يدقق في الاتنين جنيه والخمسة جنيه سيغرق في موجة برستيچ الآخرين!

والغرق في برستيچ الآخرين هو أن تمسُّكَكَ بحقك في الحصول على السلعة بسعرها المُعلَن قد يُعرِّضَك لسماع كلمتين ملهومش لزوم من مواطن واقف جنبك ببرستيچه "يا أخى يعنى هُما الاتنين جنيه دول اللى هيموتوك؟".. وقد تمتد الإهانة لواحد أسخف فيطعنك بعبارة "أدفع لك أنا الخمسة جنيه الزيادة بس أرجوك تخلَّصنا" ولا تدرى أبدًا إنت مُمكن تخلَّصه إزاى، يعنى تدى له حقنة واللا تهرُش له في ضهره، ده إذا قدرت تفهم هو إيه علاقته بالموضوع أصلًا اللهم إلا إذا كان مُصرًا على أن يتقمَّص شخصية (يفتح الله) الذي يقف دائمًا بين البائع والشارى!

الغريب أن أصحاب البرستيچ هؤلاء هُم أول مَن يصرُخ من الغلاء وارتفاع الأسعار بصورة تفوق القُدرة على التحمُل، لكن نعود لسؤالنا: ولماذا لا تُفرَض التسعيرة الجبرية؟ السبب بسيط هو أن فرض التسعيرة الجبرية يلزمه عقاب طبيعى لكُل مَن يخالف الالتزام بها، وبما أن كُل الأمور صارت مطاطة في بلدنا، فلا الخير هو الخير بالنسبة للجميع، ولا الشر هو الشر برهو، فلك أن تتخيَّل الخيار مثلًا، والبعض للعلم يعتبر الخيار خيرًا والبعض يعتبره شرًا، هَب أن الحكومة وضعت تسعيرة إجبارية للخيار، سعر الكيلو ثلاثة جنيهات مثلًا، تفتكر كده هنخلص؟ تبقى غلطان، فالعكس هو الصحيح!

غلطان ليه؟ لأن كُل حاجة في بلدنا حاليًا تخضع لمستويات وتصنيفات حسب الهوى والمركز والوضع والقدرة الثورية والانشطاط السياسي، التاجر سيلتزم فعلًا بالتسعيرة ويحُط لك شوية خيار يكتب عليهم سعرا مُعلَنا وهو الثلاثة جنيهات، وهيحُط جنبه خيار أفضل منه اسمه خيار مخصوص بأربعة جنيهات، وخيار أحسن وأحسن كخيار مُمتاز بخمسة جنيهات، أما الخيار السوبر فبستة جنيهات، والخيار الإستراتيجي فبسبعة جنيهات، وخيار السلام إحنا بدينا بالسلام بعشرة جنيه، وعندما تتجاهل برستيچك أو تعمل نفسك مش واخد بالَك منه وتقول أشترى خيار من بتاع التسعيرة هتلاقيهم شوية فقوس مضروبين بالنار ولو كان عاجبك، أما لو مش عاجبك فالخيار التانى برَّة التسعيرة قُدَّامك أهو اتفضل!

ولعُمرى فقد كان هذا هو سبب خروج أسعار السلع عن السيطرة مُنذ أمَد بعيد، المخصوص، والمُمتاز، والعالى، واللوكس، وصارت الحكاية عرضا وطلبا حسب البرستيچ، الجزار يحُط حتة لحمة كلاب منتنة ويكتب عليها التسعيرة الجبرية بينما منظرها كفيل بأنه يخليك تبطَّل تاكُل لحمة طول عُمرك، وريحتها تطردك من البلد، ويعلَّق قريب منها حتة لحمة حمرا من ضهر فخدة بهيمة شقرا عفية خسارة فيها الدبح، ويكتب عليها سعرا يبلُغ سبعة أو ثمانية أضعاف السعر الرسمى، وفكَّر واشترى يا حلو، وهُنا حقيقتان جديرتان بالذكر؛ الأولى أن الجزار لم يخالف القانون، والثانية أن القانون حُمار كما قالوا قديما!

طيب لو عملنا قانون جديد، وفرضنا تسعيرة حقيقية لخفض الأسعار هيجرى إيه؟ بالتأكيد سينتفض التُجار لأن هذا ضد حقوق الإنسان، وقتها هتلاقى الجمعيات والمنظمات إياها بترفض القانون، ونشطاءها بيتظاهروا ضده، فيقعون تحت طائلة قانون التظاهر، فيتم الجمع بين رفض القانونين ومعهما قانون الخدمة المدنية بالمرَّة؛ فالتظاهر ضد القوانين صار قانونًا لا يُمكن تجاوزه، وطبعًا ستخرُج آراء النشطاء والحقوقيين ومعاها تويتات (البرادعى) المُتحذلقة بلا مضمون ولا لزوم، وتصريحات (ممدوح حمزة) المحموقة بلا سبب ولا مُبرر، ومواقف (عبد المنعم أبو الفتوح) المايعة بدون ملح ولا سُكر، ورفض (حمدين صباحى) للقانون وللتسعيرة ولارتفاع الأسعار ولخفض الأسعار كمان!

والعمل؟ ليالٍ طويلة نقضيها أمام العاشرة مساءً مع (وائل الإبراشى)، هجوم على الحكومة لأنها عملت تسعيرة جبرية، ومُطالبات بأنها تضبُط الأسعار وترحم الغلابة، ولقاءات على الهواء مع تاجر يشكو همه وحزنه لأن مُفتش تموين بص له بصة مش حلوة لما لقاه بيبيع السُكر بضِعف سعره، هُنا يستضيف (وائل) نشطاء وزعماء وثوريين يؤكدون أن مُفتش التموين مُمثل الدولة القمعية مُجرم علشان بَص للتاجر بصَّة مش تمام!

بُناءً عليه فخُد عندك مُظاهرات وقطع طريق واعتراض تضامُنًا مع التاجر المسكين اللى روحه المعنوية صارت في الأرض بسبب البصَّة، دعوات للعصيان المدنى ومُطالبات بمُحاكمة المُفتش وإعدامه، اعتصامات ومُداخلات وهاشتاجات وتويتة جديدة من (البرادعى) يؤكد فيها أننا نعيش في دولة هزلية لا تحترم حق التاجر في البيع بأكثر من التسعيرة، و(محمد أنور السادات) يقوم بتقديم مُبادرة للصُلح بين مُفتش التموين والتاجر، طيب إزاى؟ أبدًا.. المفتش يروح يشترى من التاجر بحُر ماله عشرة كيلو سُكر، ويدفع له السعر المطلوب من التاجر اللى هو عشرة أضعاف التسعيرة الجبرية، مش كده وبس، لأ، ويبُص له بصة امتنان، ويشكره، ويوطى على إيده يبوسها كمان، ويُصاب بالسُكر بعدها وده شرط أساسى!

طبعًا الكلام السابق مبنى على فرضية نادرة الحدوث، وهى أن السادة موظفى الدولة بشكل عام ومُفتشى التموين بشكل خاص ـ كونهم من ضمن موظفى الدولة ـ مُمكن يفضّوا لنا نفسهم شوية، وينزلوا يشوفوا أشغالهم ولو يوم واحد في الشهر، وجازى الله مَن قرر أن يتقاضى الموظفون رواتبهم من ماكينات ATM بما يستحق، فيوم القبض كان هو اليوم الوحيد المضمون تلاقى فيه موظف حكومة في مصلحته فعلًا، أما الآن، فلو احتجت لواحد منهم فمُمكن تروح تقف له عند المكنة وتقفشه وهو بيقبض، أو روح له عند بتاع السكر، واحتمال تقفشه برضه وهو بيقبض!
الجريدة الرسمية