رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عزبة خير الله.. الساقطون من حسابات الحكومة «تقرير مصور»

فيتو

سنوات عمرهما مرت بحلوها ومرها.. تحققت خلالها أمنيات وأحلام وتبخرت أخرى لتصبح مجرد ذكرى وبقايا أطلال مثل تلك المنازل المتصدعة والمترامية في شتى أنحاء عزبة خير الله، واللتين اعتادتا اختلاس النظر من نافذتي منزلهما اللتين تجوران إحدهما الأخرى «ساعة العصاري».. وهكذا تمضي حياة «أم محمود» ذات الـ 45 ربيعًا، و«أم رقية» صاحبة الـ40 ربيعًا، بين أمنية وحسرة وذكرى.

لا تمل السيدتان، وهما تختلسان النظر من المارة من نافذتي منزليهما، من سرد قصة قدوم أسرتيهما إلى تلك الهضبة الصخرية القريبة من شمال حي المعادي، في سبعينيات القرن الماضي، وتبادل أحاديث الشكوى من استمرار مرار العيشة، وبالطبع لا تنسيان ترديد كلمات مجاملات الاطمئنان على الأحوال.

«أم محمود»، ترى أن الفقر الذي أصاب أسرتها السبب فيه سياسات الحكومات المتعاقبة منذ حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات وحتى حكومة المهندس شريف إسماعيل، وهو نفس السبب الذي أجبرهم على الرحيل من قريتهم في صعيد مصر والإقامة داخل عزبة خير الله، واصفة تلك السنوات بقولها: «أسرتي جاية من الصعيد الجواني، وسكنت في المكان ده من 40 سنة؛ ولسه فاكرة كلام أمي وهي بتحكي عن يوم ما دخل عليها أبويا وقالها: الحكومة مش معترفة بينا، وحتى المعاش مش عايزين يصرفوه.. العيشة هنا ضيقت وخلاص ما فيش مفر من السفر.. حناخد العيال ونتوكل على الله ونروح مصر، ومن يومها وعزبة خير الله بقت بلدنا اللي منعرفش غيرها بعد ما انقطعت علاقتنا بباقي أهلنا».

«أم رقية»، التقطت أطراف الحديث من صديقتها، لتؤكد أن الحكومة ترفض الاعتراف بأهالي عزبة خير الله، قائلة: «العزبة دي عمرها أكتر من 50 سنة، والناس هنا بتصرخ وما فيش حد راضي يسمعنا، وكل ما نتكلم يقولوا إنتوا منطقة عشوائية وبيوتكم مبنية بالمخالفة.. طيب هو إحنا لقينا بيوت غيرها تسترنا ومسكناش.. العزبة هنا كلها مشكلات ما فيش ميه ولا كهرباء ولا صرف صحي ولا مدارس ولا حتى مستشفى واحد ينقذ المرضى.. إحنا تعبنا من كتر الفقر والقلة في كل حاجة، وعمرنا خلص من غير ما نشوف يوم حلو».

بعيدًا عن أحاديث النوافذ.. يقف «حمدي» ذلك الشاب البالغ من العمر 35 عامًا، فوق حطام منزله الذي سقط منذ ثمانية أشهر، بملامح شاخت من كثرة الأسى والحزن الذي يحمله قلبه رغم صغر سنه، يروي لنا مأساة إيواء زوجته وأبنائه الثلاثة داخل عشة نسجت جدائلها من البوص بعد أن تهدم منزله الذي ورثه من والده.

«كانت ليلة سودة»، بهذه العبارة بدأ «حمدي»، حديثه معنا، موضحًا أنه كان يقطن وأسرته داخل منزل مكون من غرفتين وحمام، وجميع جدرانه مليئة بالشروخ مثله مثل الكثير من منازل عزبة خير الله، إلا أنه «كان ساترهم من غدر الزمن» - حسب وصفه - وفي إحدى الليالي استيقظ الجميع على صوت شيء يسقط، واكتشفوا أن المنزل ينهار، واصفًا تلك اللحظات بقوله: «أول حاجة فكرت فيها أنا ومراتي العيال الصغيرين.. بقينا نجري والحمد لله كلهم خرجوا بسلام، والناس اتلمت وحاولوا يطلعوا أي حاجة من فرش البيت بس كل شيء ادفن تحت الحيطان اللي وقعت، وبقيت يا مولاي كما خلقتني مش معايا أي حاجة حتى بطاقتي وقسيمة جوازي.. كل الأوراق راحت».

«جيراننا استضافونا في الليلة دي» - والحديث لـ «حمدي»، مشيرًا إلى أنه: «فضلنا نتنقل من بيت لبيت لمدة شهر، ولما اتأكدت إني مش هقدر أبني البيت تاني عشان قلة الإمكانيات وخفت على عيالي من كتر قعدة الشارع، فكرت إني أبني عشة من البوص وقلت أهي حاجة تسترنا وخلاص، ومن ساعتها وإحنا عايشين أنا وعيالي حياة ما يرضاش بيها أي بشر».

«حمدي»، يعتمد في توفير نفقات أسرته على نبش أكوام القمامة التي تملأ شوارع العزبة، واصفًا هذا العمل بقوله: «الطريق الوحيد للتغلب على الفقر في العزبة هو العمل في تجارة المخدرات، لأنه ما فيش أي مصدر دخل تاني والحكومة مش معترفة بينا، وأنا براعي ربنا وخايف على ولادي عشان كده قررت أعمل في نبش القمامة، وربنا هو اللي بيعين».

مطالب «حمدي»، من المسئولين تتلخص في أمنية النظر له بعين الرحمة لانتشاله وأطفاله الصغار من الحياة غير الآدمية التي يعيشها، وأن يوفروا لهم أي مسكن خارج عزبة خير الله، مؤكدًا: «نفسي ولادي يتربوا في مكان غير ده.. مش عايزهم يعيشوا حياة الذل والفقر اللي أنا عيشتها.. مش عايزهم يتحرموا من التعليم بسبب إن العزبة ما فيهاش مدارس».
Advertisements
الجريدة الرسمية