رئيس التحرير
عصام كامل

التاريخ.. ينسى أحيانا


"الأرشفجي" محمد حسن، كما نعته الزميل عصام كامل، رئيس تحرير "فيتو"، أتحفني بحق مطالعة كتابه "عبدالناصر.. الوجه الآخر".

"... يشبه في أدبياتي المغناطيس الذي سرعان ما يلتقط المعلومة، وكأنها قشرة من حديد تسكن جوالا من ورق.. يميل دوما إلى البحث المنصف، ويمتلك واحدة من أهم المكتبات العربية على الإطلاق، وهو قبل هذا وذاك، "أرشفجي"، يميل إلى قص كل ما تصل إليه يداه، ويغلفها في ملفات أنيقة تزين جدران المكتبة العامرة بأمهات الكتب".


هذا هو سياق الوصف.. وتلك فقرة من مقدمة الكتاب المهم، الذي أجهد فناننا محمد حسن نفسه في إعداده.

هذا الكتاب يستطيع أي باحث مجتهد أن يخرج منه بعدة أفكار لكتب أخرى، أو سيناريوهات لأفلام، أو مسلسلات تاريخية عن الثورة، وأعضاء مجلس قيادتها، أو بالأحرى "حركة الجيش"، وشهادات معاصريها، وشهود العيان.

أيضا هذا الكتاب الوثائقي يحتاج ممن يبغي قراءته، أن يتجرد من مواقفه السابقة، إذا كان من عشاق عبدالناصر، ومؤيديه.
قبل أن تداهمني المساحة، أدلف حالا إلى ما أريد قوله، وهو أننا في طفولتنا وشبابنا، تعلمنا في المدرسة الابتدائية، والإعدادية، من كتب التاريخ، ومن الصحف، التي لم تتجاوز "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" و"المساء"، وبضع مجلات، كلها حكومية، ومن وسائل الإعلام، التي كانت قاصرة على قناتين، وعدة إذاعات.. تعلمنا وعلمنا أن جمال عبدالناصر هو أول رئيس للجمهورية العربية المتحدة، وأن ما حدث في يوليو هو ثورة كاملة قادها الجيش ضد الملك "الفاسد"، ونظام حكمه.. ولم نسمع بأن هناك شخصا اسمه "محمد نجيب" حكم مصر بعد يوليو 1952، إلا أيام رئاسة أنور السادات.

وفي السر، قال لنا أحد المدرسين، بصوت يكاد يكون همسا: "إن مصطفى النحاس كان رئيسا لحزب "الوفد"، وترأس حكومة مصر سنوات أثناء الملكية، ولم يكن سيئا وفاسدا تماما، كما تعلمنا، ولكنه كان زعيما، وكان بشرا، له أخطاؤه، وإنجازاته".. لو ارتفع صوت الرجل، وسمعه أحد خارج حجرة الدراسة، لربما خرج منها إلى المعتقل.

وتعلمنا أيضا أن ما تلقيناه في 1967 لم يكن هزيمة، بل "نكسة".. طبعا لم نكن نفهم الفارق بين الكلمتين.. وتعاطفنا كثيرا مع "الإخوان المسلمين" الذين تجرعوا صنوف التعذيب في المعتقلات، حسب رواياتهم، التي كان الناس يتداولونها فيما بينهم همسا.

كان عبدالناصر يمثل لنا، نحن الأطفال، عملاقا، بطلا، لا يجود الزمان بمثله.. قويا، يستعصي على الهزيمة.. يستحيل كسره.. لذا لم نصدق خبر موته.. تساءلنا، في براءة: "هل يموت ناصر؟!".. ودعم فينا تلك النظرة آباؤنا، وكبراؤنا.. وخرج الناس، وخرجنا معهم، في عفوية شديدة ومرارة، وانتحب الملايين، لطمت النساء الخدود، وشققن الجيوب.. وانهار الرجال، وأصيب أبي بأزمة قلبية، ثم رحل بعدها بشهور، لتصير المأساة مأساتين، والحزن حزنين.

"السادات" أصابنا بصدمة مروعة.. أفقدنا الثقة في كتب التاريخ.. صار كل ما تعلمناه وعرفناه عن "ناصر" وصحبه، كذبا، في كذب.. طبعا لم نصدق، أو لم نستوعب.. وقالوا لنا وقتها الكثير عن فساد الحقبة الناصرية.. ولم نفهم.

فوجئنا بظهور "محمد نجيب"، وسيره إلى جوار "السادات" في جنازة أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة.. ظهر في بعض الأخبار والصور فقط.. لم يتم تعويض الرجل عن سنوات القهر والذل والحرمان التي قاساها في قصر "زينب الوكيل" بضاحية المرج.. أولاده تشردوا، وماتوا في الغربة، وزوجته رحلت كمدا.

أين ذهب يوسف الصديق، وصلاح وجمال سالم، وعبداللطيف البغدادي، وكمال الدين حسين، وزكريا محيي الدين، وغيرهم؟!
ثمة رغبة عارمة في معرفة تفاصيل عن مصائر ونهايات أبطال تلك الحقبة المهمة من التاريخ.. فضلا عمن سبقوهم من رموز العهد الملكي.

هل ذاكرة التاريخ تنسى أحيانا؟! هذا الكتاب وغيره، يؤكد ذلك.. من يكتب التاريخ يدون من وجهة نظره، وقائع تجعله، في نظر من يقرأ، بطلا.. ويحرص على إخفاء كل ما يدينه.. وكلنا بشر.. نخطئ ونصيب، نتذكر ونسهو.. ونروي وننسى، ونكشف ونخفي، ونتهور ونجبن.. ونصدق ونكذب.. نتمتع بخصائص البشر.. لسنا ملائكة.

التاريخ يكتبه بشر.. لذلك لا بد أن ينسى أحيانا.. لو كتبته الملائكة لكان علينا أن "نبصم بالعشرة" على تصديق كل ما يضمه من روايات، ويحويه من ذكريات.. ولو كتبه أنبياء لكان علينا أن نقدسه، وأن نؤمن بكل ما جاء فيه.

الخلاصة؛ أننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد من روايات شهود العيان والمعاصرين لحركة يوليو 1952، وأن نسرع بتوثيق وقائع وأحداث يناير 2011، وما تلاها من تواريخ مهمة، حتى لا يغافلنا أصحاب المصلحة، ويخفون ما يدينهم، ويسجلون "زيفا" ما يجعلهم عماليق، في نظر التاريخ.

الجريدة الرسمية