رئيس التحرير
عصام كامل

أحلام.. معهد السينما


كنت من المحظوظين الذين تمت دعوتهم من الدكتور محمد خيري سعود رئيس قسم الإخراج بمعهد السينما،  للمشاركة بلجنة تحكيم مشاريع التخرج لطلبة السنة الرابعة بالمعهد، ولم أكن أتخيل كل هذا التشاؤم من جيل جديد يشرف على الخروج للحياة الفنية والثقافية ليشكل وجداننا بأعماله الإبداعية في أحلك أوقات الوطن، حيث تتوزع موضوعات الطلبة ما بين الموت ولحظات من الإحباط والانكسار والشيخوخة والمعاش والفقر والموت..


ويكفي أن تسمع أسماء لمشاريع مثل (غيبوبة-مرض مش مزمن) لتري كيف يختار هذا الجيل موضوعاته وإن كان ذلك لايمنع من وجود تكنيك جيد بعضه شديد الاحترافية كما في فيلم (إسكتش- خليل – فوق- مرض مش مزمن -في دقيقة) وهي تكشف عن جهد إبداعي مختلف ومكثف، وبعضها تأثر بمبدعين عالميين مثل انجمار برجمان وتاركوفسكي، بينما غرق بعضها الآخر على نحو مدهش في المحلية مثل (سكتش) للمخرجة نورهان سامي الذي يقدم لنا طفلا يرسم مأساة بيئة شعبية من وجهة نظره، بينما يحاربه المجتمع إبداعه ومحاولات خروجه بالتخلف والبلطجة والهمجية والرجعية، ويعتبر نموذجا مصغرا لرسم صورة لبلادي.

هنا نأتي إلى الشق الثاني في المنظومة الإبداعية لمعهد السينما بل وأكاديمية الفنون عموما وهو رئيستها الدكتورة أحلام يونس التي تتحرك منذ توليها الأكاديمية لتكشف ببساطة أن الرؤساء السابقين وبعضهم أمضي عمرا طويلا مثل الدكتور فوزي فهمي لم يفعلوا شيئا لهذا الصرح العظيم، سوي بعض المشاريع الجوفاء التي غطاها التراب مع مرور الزمن بعد أن تسلل الإهمال لكل جنباتها وغطي التراب مبانيها، وعششت البيروقراطية في مكاتبها، حتى جاءت أحلام لتنظف هذا الصرح وتكشف عن الذهب المختبئ خلف هذا التراب، فإذا بنا أمام القاعة التي شاهدنا بها الأفلام (قاعة ثروت عكاشة) المغلقة دون أسباب منذ عام 1993 وهي تحفة بمجموعة من المدرجات والبناوير الامامية وتتسع استدارتها ومقاعدها لعروض مسرحية وسينمائية بشكل رائع بالإضافة لمشاريع الطلبة التي شاهدناها.

والحقيقة أن جهد أحلام يونس التي ولدت فكريا وثقافيا في معهد الباليه والذي شغلت رئاسته لفترة طويلة بعد ذلك لا يتدفق في هذا الاتجاه الخاص فقط بالمباني التي تتغير وتفتتح كل يوم في أعرق صرح ثقافى فنى ليس له مثيل على مستوى العالم، حيث يحتوى على ثمانية معاهد تمثل الفنون المختلفة، وإنما هي تعمل كخلية نحل متكاملة بمساعدة زملائها لضخ الدماء في شرايين الإبداع والثقافة داخل وخارج هذا الصرح الذي لا ينكر العارفين بدواخله أنه كان مرتعا للصراعات والغيرة والحسد على غرار كيانات مصرية عديدة ومهمة، حيث بعثت بالعديد من الفعاليات والمهرجانات من نوعية إطلاق «الملتقى العلمى العربى الأول للأكاديمية»، لنستعيد دورنا وريادتنا للفن والثقافة العربية، وعقد اتفاقيات تعاون وبروتوكولات مع الصين وروسيا وإيطاليا للنهوض بمعهدى الكونسرفتوار والباليه، وإطلاق مبادرة لنشر الفنون الراقية بين أطفال مصر، من خلال الجولات التي يقوم بها طلاب الأكاديمية ليقدموا الفنون العالمية في المدارس الحكومية!

وعندما تلتقي الدكتورة أحلام أو تجلس معها سوف تكتشف أنك أمام مبدعة وإدارية متحمسة ودقيقة ولديها إصرار وصبر للوصول لما تريد، فهي نموذج نتمني انتشاره في أماكن كثيرة بمصر ربما يتغير أسلوب حياتنا العقيم ونخطو للأمام في مرحلة دقيقة بالحب والإخلاص والجهد والمثابرة، بل إننا نحن نحتاج العشرات من (أحلام) للنفض الغبار من على وجه الوطن المتسخ بكل أنواع القبح والفظاظة.

وأخيرا، فإن الشيء الوحيد الذي أفزعني في هذا المكان وحول مباني الأكاديمية وقصر الثقافة بالهرم وفي هذه المنطقة التي من المفروض أن تكون مزارا سياحيا نفتخر به هو هذا الكم من "الزبالة" وسيارات التوكتوك التي تحول الحلم الجميل والإبداع الراقي إلى كتلة من السريالية والعبث الفوضوي الذي صار يسيطر على كل شبر من تراب هذا البلد، وكأنه سكتش آخر لمحاولة إبداعية محاصرة بالتخلف والقذارة واللامبالاة، وإن كان الأمل يظل قائما بأمثال أحلام يونس وأجيال طلبة السينما التي نتمني أن تتخلص من تشاؤمها وبحثها عن الموت في سطور أفلامها خلف مناخ مؤقت لن يستمر طويلا بإذن الله.
الجريدة الرسمية