رئيس التحرير
عصام كامل

الفلاح في السينما.. «الأرض لو عطشانا نرويها بدمانا».. «شيء من الخوف» أول فيلم يرصد هموم المزارعين.. «زينب» و«ابن النيل» معالجات سطحية.. وملحمة «أبو سويلم&#

فيتو

 بين طين الأرض يحيا ويموت في اليوم الواحد ألف مرة، تنمو أحلامه على شواشي الزروع ناثرةً في داخله الأمل، تنزلق حبات العرق على جبينه تحت وهج شمس لا ترحم، لكنه يتشبث بالأرض مهما كانت التحديات، ينتظر أن يمد إليه أحد يد العون، ولكنه يظل دومًا على الهامش، لا يلقى إلا الوعود، وتبقى مشكلاته إلى الأبد مهما علت صرخاته بلا حل .. انتظر من «الفن السابع» أن ينقل الصرخة المدوية للجميع علَّهم يشعرون به، لكنهم فضلوا أن يكون «الساذج» و«العبيط» في بضاعتهم التي يقدمونها إلى الناس، واختاروا ألا تكون للفلاح كرامة في أفلامهم، إلا قلة آثروا أن يقتربوا من واقعه ونقلوا بعضًا من آلامه.. وفي السطور التالية نستعرض أهم الأفلام التي تناولت - بحق - فلاح مصر.


 معالجات سطحية
 «زينب» و«ابن النيل» 
تعاملت السينما المصرية بتنميط وسطحية مع الفلاح، وظل الفلاح المصري مجرد شخصية هامشية في السينما من خلال بعض الأدوار المساعدة داخل أحد القصور الموجودة في الريف، والتي تدور فيها بعض أحداث تلك الأفلام، أو مجاميع تظهر في الخلفية دون أن يكون لها أي دور في مجريات الأحداث، إلى أن جاء فيلم «زينب»، عن رواية محمد حسين هيكل، الذي يستعرض حياة فلاحة بسيطة وقعت في قصة حب، وأرغمتها التقاليد على الزواج من رجل آخر.
 الفيلم لا يتعرض لحياة الفلاحين بصورة عميقة، ولكن صانعيه أرادوا اختيار أجواء رومانتيكية تدور فيها قصة حب شبيهة بالروايات الفرنسية، فوقع الاختيار على الريف المصري، لكن ما يُحسب له أنه استعرض بعض العادات الريفية، ثم جاء فيلم «ابن النيل» الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1951، والذي يستعرض قصة فلاح تمرد على أوضاعه، وهاجر تاركًا القرية، وانغمس في حياة العاصمة قبل أن يعود لينقذ زوجته التي تركها بعد أن خرج من السجن.

 ثورة يوليو
 نظام يوليو ومغازلة الفلاح 
تظل السينما هي ابنة العصر الذي تعيش فيه، ففي العهد الملكي وبالأرقام فإن عدد الأفلام التي تناولت الفلاح والريف المصري بلغ على أفضل تقدير 2.4% من حجم الإنتاج السينمائي، في حين كانت الأفلام التي تناولت "حياة الليل" تشكل 35% من إجمالي عدد الأفلام، إلى أن جاءت ثورة يوليو فانقلب الحال، وظهر سيل من الأفلام تحت رعاية الدولة التي تحكمت في الإنتاج السينمائي الذي ضمته تحت راية القطاع العام لها، وخلال الخمسينيات والستينيات حرصت على توضيح الظلم والقهر الذي تعرض له فلاح ما قبل الثورة من خلال الإقطاع والطبقة الحاكمة، فكانت أفلام «شيء من الخوف» و«الأرض» و«الزوجة الثانية».

 تحدي السلطة
 شيء من الخوف 
استطاع حسين كمال في رائعته «شيء من الخوف»، عن رواية ثروت أباظة، أن يهاجم السلطة بالاستعانة برمزية الأرض والفلاح، وأن يظهر جليًّا الكبت والقهر اللذين يعاني منهم الفلاح المصري من خلال شخصية المستبد "عتريس" الذي لا يتوانى عن الإتيان بأي جرم في سبيل توطيد سلطته حتى لو على أنقاض الفلاحين، إلى أن تتصدى له فلاحة "فؤادة" وتتحدى جبروته وسلطته التي يثبت التحدي أنها سلطة هشة لا تحتاج من الشخص غير أن يتخلى عن خوفه ويواجه، ويظل مشهد عطش الأرض وتشققها من أروع مشاهد السينما المصرية حتى تقوم "فؤادة" بفتح "الهويس" فتروي شقوق الأرض وتروي معها ظمأ الفلاحين لسينما معبرة عنهم.. 

 شاهين وأبو سويلم:
 «أرض» أبو سويلم وعودة "شاهين" لحياة الفلاح بعد «ابن النيل»
 وتظل أيقونة يوسف شاهين الكبرى والعلامة المسجلة في تاريخ السينما المصرية هي فيلم «الأرض»، عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، الذي استعرض حياة الفلاحيــن بكامل تفاصيلها الدقيقة بصورة لم يسبق تقديمها من قبل، فشخصية محمد أبو سويلم هي صورة من كل فلاح مصري يعشق طين هذه الأرض، ويتحدى الدولة التي تخفض نوبة المياه من عشرة أيام إلى خمسة التي يراها غير كافية لري عطش الأرض، يتحدى محمود بيه الإقطاعي الذي يرغب في تبوير الأرض لإنشاء سكة زراعية تلتهم أرض محمد أبو سويلم ومعه فلاحون آخرون، فيقف في وجه السلطة الغاشمة التي ترى الفلاح هامشيًا ومخلوقًا لإرضاء نزوات الكبار.
 وكما قدم حسين كمال مشهد الأرض العطشانة في «شيء من الخوف»، قدم يوسف شاهين أروع مشاهد السينما على الإطلاق حين تقتحم السلطة أرض أبو سويلم في أثناء جني القطن ويُربط من أقدامه في الخيل لتجره لكنه يتشبث بالأرض وتسيل عليها دماؤه وينشب فيها أظافره علها تنقذه.

 ظلم العمدة:
 «الزوجة الثانية» وأطيعوا أولي الأمر 
وجاء صلاح أبو سيف في ملحمة «الزوجة الثانية» ليصور القهر الممارس على الفلاح من قديم الأزل، ولكن بصورة لا تخلو من إنسانية، إذ يطمع العمدة «صلاح منصور» ممثل السلطة في زوجة أحد الفلاحين البسطاء «شكري سرحان»، وحين يتمسك بزوجته ويقرر الهرب لأن المواجهة ليست في صالحه، فالكفة غير متوازنة، ويتم تلفيق التهم له، لينصحه شيخ القرية بتطليق زوجته وطاعة أولي الأمر، فالجميع يمارس القهر على الفلاح، إلا أن الزوجة "فاطنة" (سعاد حسني) تقرر أن تتعامل بالحيلة مع هذا المستبد، وتنتصر عدالة السماء للفلاح وزوجته. 

  «حرام» بركات
 انتزع المخرج بركات آهات الناس "الغلابة" وقدمها في فيلم «الحرام» عن قصة العبقري يوسف إدريس، فالفلاحة المقهورة (فاتن حمامة) تجسد في هذا الفيلم عصر الفلاح والفلاحة اللذين يتعرضان للسخرة في مواسم جني القطن والخولي (زكي رستم) الذي يتحكم في الفلاح طوال اليوم، ولا يحصل في النهاية إلا على قروش قليلة لا تسد جوعه.  كما ركز الفيلم على شخصية الفلاحة التي تعول زوجها المريض (عبد الله غيث) وتتعرض للاغتصاب داخل الأرض ولكل أنواع القهر والذل. 

 الفلاح "يغادر" السينما
 وجاء انسحاب "الفلاح" من السينما حين تقلصت مساحة الأرض الزراعية وتعرضت للتجريف في سبعينيات القرن الماضي بعد الخروج الكبير للفلاحين لدول النفط أملًا في "مروحة وتليفزيون ملون"، تحقيقًا لحلم الانفتاح الذي انتشر في جسد الدولة، لتتقلص أيضًا نسبة الأفلام التي تهتم بالفلاح وحولته إلى "إكليشيه" ثابت لا يتغير ولا يشبه الحقيقة نهائيًا، مجرد شخص ساذج منبهر بحضارة القاهرة يبعث على الضحك في نفوس قاطني العاصمة كـ«عنتر شايل سيفه»، و«المتسول»، و«رجب فوق صفيح ساخن» و«الغشيم» وغيرها من الأفلام التي صورته هامشيًا، وابتعدت السينما عن القضايا الحقيقة التي تمس الفلاح البسيط الذي بنى أعظم حضارة عرفتها البشرية على ضفاف النيل عن طريق مهنة الزراعة.

الجريدة الرسمية