رئيس التحرير
عصام كامل

لا تشغل البال بسعر الدولار.. واغْنَم من الحاضر لحم الحمار!


في أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، كانت عودة حزب الوفد العريق للحياة السياسية بزعامة فؤاد باشا سراج الدين تحت اسم "حزب الوفد الجديد" حتى لا يخالف قانون الأحزاب آنذاك بمنع عودة أحزاب ما قبل ثورة 52 بأسمائها القديمة.. كان الحنين الشعبي لوفد ما قبل 1952م جارفا بمعنى الكلمة.. في مسافة زمنية قصيرة كانت لجان ومقار الوفد تغطي جميع المحافظات المصرية لدرجة أنها انتشرت في أحياء المدن بل في القرى والعزب الصغيرة.


تلك مقدمة سريعة لاكتمال معلومة عن عودة حزب الوفد بعد طول رقاد لمدة 30 سنة، حتى لا تقول إني حارمك من شيء.. المهم أن ما أود الحديث عنه، واقعة استدعتها ذاكرتي على هامش الارتفاع المتصاعد لسعر الدولار وحمى المخاوف من ارتفاع الأسعار وتعميق جراح الفقراء.

الواقعة دارت تفاصيلها ذات أمسية بسراية أحمد بك أباظة، نائب رئيس حزب الوفد آنذاك، بقرية الربعماية مركز منيا القمح شرقية.. كنت قد انضممت لحزب الوفد مع مجموعة شباب نتطلع لممارسة السياسة من خلال قناة شرعية لا سيما قد أسعدنا الحظ للحاق ببعض من تبقى من رموز الزمن العفيّ الفتيّ الجميل في أربعينيات القرن الماضي أمثال فؤاد باشا وياسين بك سراج الدين وإبراهيم باشا فرج والدكتور وحيد رأفت والدكتور نعمان جمعة ــ في بداياته المبهرة ــ فضلًا عن كوكبة أخرى شديدة الاحترام من قدامى قيادات الوفد بالمحافظات المختلفة.

في الأمسية التي كانت بسراية أحمد بك اباظة، وبعد تقديمنا للتعارف بالرجل جاءت جلستي بجانبه.. قال أهلا بالشباب مستقبل مصر والوفد.. رددت التحية بأجمل منها.. وبعد أن رحب بالباقين، مال برأسه ناحيتي وسألني: الدولار بكام النهاردة؟ لم أرد.. وقلت في نفسي من المؤكد لا يقصدني بالسؤال، ثانيًا لم أجد داعيًا ولا مناسبة، ولا مظهري يشي بأنني تاجر عملة.. المفاجأة أن السؤال كان موجهًا لي بالفعل بعد أن كرره عليَّ قائلا باسألك الدولار كام النهاردة؟

حينئذ تأكدت أنه جاد.. فقلت بجدية أكثر: الفجل وصل حزمتين بقرش.. وأردفت قائلا هذا بالنسبة للفجل الوِرْوِر، لكن لا أعرف الفجل الإسترليني وصل كام.. لم يبد الرجل امتعاضًا أو دهشة بل ظل على ابتسامته.. سيطرت عليَّ شهوة الكلام فاستطردت قائلا: يا باشا أنا لا يعنيني سعر الدولار، يطلع ينزل يرقص يعرج لا أبالي.. الأهم عندي وعند السواد اللي عايش في السواد هو سعر حزمة الفجل وسندويتش الفول والطعمية وحجر المعسل..

أنصت الرجل إليَّ وظل على ابتسامته التي لا هي ابتسامة إعجاب ولا ابتسامة سرور ولا ابتسامة دهشة، بل كانت تحمل ملامح ابتسامة ريبة واخدة وِش قرف.. سرعان ما تحولت إلى ابتسامة قرار! قرار بفصلي أنا وعدد من زملائي المنضمين الجدد للوفد الجديد.. إذ كيف لفقير حقير أن يتسلل إلى حزب النخبة وكريمة المجتمع؟ وهو فعلا حزب النخبة ولا تصدق من قال إنه حزب الجلاليب الزرقاء.. أحمد بك أباظة لم يع أن المصري لا تعنيه البورصة ولا أسعار العملة، فأمواله لن تزيد ولا أسهمه ستصعد للسماء.

صدقوني.. المصري الفقير مُحَصَّن ضد الفزع من ارتفاع أو انخفاض سعر الدولار، ولا يلتفت لسهم البورصة.. هو لا يعرف سوى سهم العوازل طالع ونازل في أغنية الجميلة سعاد مكاوي.. المصري يضحك من فَقْرِه.. عندك شاعر اسمه أبوفول يقول إن مثله الأعلى ابن الرومي.. وعندك من يسأل لحم الرومي المستورد حلال أم حرام وهو الذي لو شاهده مباشرة دون حائل يسقط مغشيًا عليه؟! ومن يمر على الجزار يبكي، ومن يقسم أن النيفة هي التي ندعك بها ظهرنا أثناء الاستحمام، ومن يرتدي جاكتة مُصَنَّفَة آثار، وهناك من إذا سألته الدولار بكام؟ يقول لك: "الدولارَ صْفَر" بخمسة جنيه الكيلو، و"الدولارْ مَشوي" بجنيه الكوز! وهناك من لا يعرف الفرق بين خط الفقر وخط حلوان.

صدقوني المصري يُدلِّل الفقر ولا يثور بسببه.. العرب وصفوا الفقر بالمُدْقِع.. وزايد المصريون ووصفوه بالفقر الدكر والفقر النتاية.. قالوا الفقر حشمة..وقالوا الفقر"عَنْطَزَة".. ألم يصادفك ذلك المصري الذي يقدم نفسه لك قائلا: محسوبك فلان، باسْرَح بمناديل ورق وولاعات، وباغسل صحون في المطاعم، وأيام الجمع بامسح سلالم، وأعوذ بالله من قولِة أنا؟!

مرة أخرى.. المصري ربما يثور لأسباب أخرى كالظلم والكرامة.. ولا يثور بسبب الفقر.. بل يتعايش معه ويصاحبه كما يتعايش الإنسان ويتصاحب مع مرضه المزمن كحساسية الصدر والسُّكَّر، ويدَلَّعه ويسخر من حاله كما أسلَفْت.

حبيبي المصري أعلم أنك مثلي تمامًا لا يهزك جنون الدولار.. ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة.. فلا تشغل البال بسعر الدولار/ واغنَم من الحاضر لحم الحمار.
الجريدة الرسمية