رئيس التحرير
عصام كامل

العدل والعلم والعمل (2)


العلم
قد يخطئ الكثيرون عندما يعتقدون أن الإنسان فضل على باقى المخلوقات بالعقل فبعض المخلوقات أذكى وأرجح عقلا من كثير من البشر، وإنما فضل الإنسان على باقى المخلوقات بالعلم والقدرة على التعلم. كانت معجزة آدم أبو البشر وأولهم في قدرته على تعلم أسماء كل المخلوقات وهي القدرة التي باهى بها الخالق أمام الملائكة وطلب منهم أن يسجدوا لآدم صاحب العلم. ولم يعِ الكثيرون مغزى أن يكون أول ما نقله الوحى لنبى أمى قول الخالق له اقرأ وأن تكون أولى الآيات التي تبرهن قدرة الخالق بعد الخلق هي تعليم الإنسان مالم يعلم.


كان العلم لآلاف السنين محل تقدير كل البشر وكان صاحب العلم دائما محل احترام حتى حاول الناس الانتساب إليه بكل طريق، فلم يكن صاحب العلم وحده هو صاحب الفضل، بل كان طالب العلم ولو لم يحصل من العلم شيئا بعد هو أيضا محل الاحترام ليس لنفسه فقط بل لأهله وجيرانه وكل من ينتسبون إليه. وعرف الناس أن الفضل للعلم قبل العقل حتى قال الشاعر:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته والعقل قال أنا الرحمن بى عرفا
فأفصح العلم إفصاحا وقال له بأينا الرحمن في قرآنه اتصفا ؟
فبان للعقل أن العلم سيده وقبل العقل رأس العلم وانصرفا

وكانت مصر منذ فجر التاريخ قبلة العلم ومنارته ولم يعبر عن اهتمام المصريين بالعلم قدر إنشائهم لأكبر مكتبة للمخطوطات والوثائق والبرديات وكل ما دونه البشر من علم في الإسكندرية وحفاظهم على هذه المكتبة وما فيها ولو بأرواحهم حتى احترقت أثناء هجوم الرومان على الإسكندرية.

وبعد ما يقرب من ألف عام من اندثار مكتبة الإسكندرية تم إنشاء قبلة أخرى للعلم في القاهرة بتأسيس الأزهر لتهوى إليه أفئدة طالبى العلم من كل أرجاء العمورة وتعود مصر به إلى الصدارة كمنارة العلم قبل أن تبدأ نهضة الغرب بمئات الأعوام. كان الكتاب هو مصدر العلم في كل قرية وكان من ينهى دراسته بكتاب القرية ويلتحق بالأزهر في القاهرة مفخرة لأهل قريته ومن ينهى دراسته في الأزهر يعد من العلماء وأهل الحل والعقد. لكن حصر الجامعات على الجامعة الدينية أدى إلى تدهور العلوم التطبيقية والإنسانية إلى أن جاء الفرنسيون حاملين موجة أخرى من الحضارة حتى كان تأثير ثلاث سنوات من الوجود الفرنسى في مصر أكبر وأعمق من نيف وسبعين عاما من الاحتلال البريطانى، وكان فك طلاسم حجر رشيد هو مفتاح فهم الحضارة الفرعونية وكان كتاب وصف مصر هو مفتاح الدراسات الاجتماعية، وكان علماء الحملة الفرنسية هم المثال الذي تاق إليه حكام الأسرة العلوية في إنشاء المدارس والمدارس العليا في العقد الثالث من القرن التاسع عشر.

على خطاهم بدأ تأسيس الحضارة المصرية الحديثة والتي كانت درة تاجها جامعة أهلية مصرية تأسست عام 1908 بجهود ذاتية واستمرت هكذا ما يقرب من سبعة عشر عاما، حتى أجبرتها الضائقة المالية إلى التحول إلى جامعة حكومية بعد ذلك. ظل العلم هو أساس الحضارة المصرية في كل عصورها وظل الابتعاد عن العلم هو سبب كل انهيار حدث في التاريخ المصرى في كل عصوره.

وللأسف منذ أكثر من خمسين عاما لم يعد هدفا ورعايته ورعاية أهله فرضا من فروض الدولة المصرية وذهب زمان كان فيه أهل العلم هم أصحاب القرار وصانعو المستقبل حتى أصبحنا في زمن لا يستغرب فيه أن نرى عالما عاملا ولا يجد قوتا أو يستجدى ثمن علاجه. زمن يهجر فيه الطلاب المتفوقون والنابهون العلم بحثا عن المال والسلطة والنفوذ.

زمن أصبحت فيه تجارة الكلام مهما كانت سفاهته هي التجارة الرابحة وأصبح البحث عن العلم والانتساب إليه هو الطريق المؤكد إلى الفاقة والفقر المدقع. وعكس ما تراه في كل بلاد العالم دون أي استثناء تراجع المعلمون وأساتذة الجامعات إلى ذيل جداول الأجور حتى صار راتب أستاذ الجامعة أقل من راتب بعض أمناء الشرطة وأصبح الطالب يباهى أستاذه بأنه بعد أيام ينهى دراسته ويصير أول راتب له أضعاف راتب أستاذه الذي علمه والذي لا يكفيه راتبه إعالة أسرته..
وللحديث بقية الأسبوع القادم إن شاء الله

الجريدة الرسمية