رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون في خطاب الرئيس!


بدا مهمومًا كئيبًا وهو يُردد عبارات خافتة تُشعرك أنه يتحدَّث مع نفسه ويُخاطبك في ذات الوقت، فلا تفهم ما يقول لتُجبه، ولا ترتاح من شبح التأنيب لتجاهُلك إياه لو افتكر إنك مطنشه، ولمَّا طلبت منه تكرار ما يقول، ضرب كفيه ببعضهما البعض أكثر من مرَّة كوسيلة لتنظيفهما من آثار الحواوشى الذي التهم منه ثلاثة أرغفة، وتجشَّأ (اتقرَّع يعنى) وألقى بداخل جوفه بمحتويات كوب الماء دُفعة واحدة كأنه لم ير ماءً ولا كوبًا من قبل، ومن حُسن الحظ أنه اكتفى بالمحتويات فحسب، وأعاد الكوب الفارغ لطاولة المقهى، وإلا كُنت سأضطر لدفع ثمن الزجاج مع فاتورة الماء والمشاريب!


أخيرًا نجحت في استبيان إحدى عباراته "الريِّس بيقول لَك عندنا سبعة ملايين موظف مش محتاجين منهم غير مليون بس.. بالذمة ده كلام؟!" خشيةً من التأثير السلبى الناتج عن هرى السياسة مع غير الساسة شرعت في تغيير مسار الحوار، أو حتى الهرب من جحيم مقهى علمت أنها ستتحوَّل فجأة بقدرة قادر إلى ديوان وزارة الخارجية دون تمهيد ضرورى ولا تأهيل لذلك، أو لقاعة المؤتمرات الكبرى في مقر جامعة الدول العربية ما يُنذر بعواصف خلاف لا قبل لى ولا لـ(شمشون الجبار) ذاته بمواجهتها، لكنه واصل بإصرار ليحرمنى من فُرصة الفرار "طيب بالذمة مين يعمِل حِس للبلد لو الستة ملايين قعدوا في البيت؟!"

رغبت حتى على سبيل الاستسلام الكريم أن أوضِّح له أنه ذكر نصف الحقيقة فحسب، وأن الرئيس أكَّد أن أحدًا من الموظفين غير المطلوبين في هيكل النظام الإدارى للدولة وأذرعه وسيقانه وصدره واللى قال هاتوا حتَّة منه لن يُضار، وأن الدولة لن تمنح استمارة ستة لواحد من الستة ملايين المذكورين، ولن تقوم بتخفيض الرواتب، أو المساس بمصائر هؤلاء الموظفين كونهم ـ على حَد قول الرئيس ـ غير مُذنبين في هذا الوضع، بالإضافة لعدم تحمِّل أي حكومة أو نظام الحُكم لتبعات (اجتماعية / اقتصادية / سياسية / أمنية) اتخاذ قرار مثل هذا ولو حتى في الخيال، لكنه لم يمنحنى الفُرصة، وإنما تشبث بذراعى بقوة ليمنعنى من النطق، وليلوِّث كُم سترتى ببقايا الحواوشى في أصابعه، وهو يواصل "تخيَّل تنزل الصُبح من بيتَك تلاقى الشوارع فاضية، والمواصلات رايقة، والمترو مش لاقى اللى ينُط فيه ويتشعبط، بالذمة دى تبقى عيشة؟!"

أذهلنى منطقه، هل تكمُن جدوى الموظفين في نظره في أنهم بيعملوا زحمة غير طبيعية كُل يوم الصُبح وبعد الظهر هذا إذا التزموا بمواعيد الانصراف والحضور أصلًا؟ وهل يُمانع حضرته في أن يتحوَّل هؤلاء الموظفون إلى مُنتجين حقيقيين في مهن تُدر ربحًا وإنتاجًا على الوطن والشعب ويعملوا نفس الزحمة كُل يوم الصُبح برضو بدلًا من الضجيج بلا طحين الحالى؟ وواصل هو "وبعدين إحنا بندفع ضرايب من الرواتب اللى الريِّس بيقول إنها زادت 3 أضعاف على ميزانية الدولة دى، تخيَّل لو مكانتش زادت من 70 مليارا لـ220 مليارا في 4 سنين، هل الضرايب كانت هتزيد؟ مش الضرايب دى من إيرادات الدولة والدخل القومى برضو؟" كدت أقول له إنه لا يعقل أن يتم احتساب المسألة بهذه الطريقة، ودولة إيه دى اللى تستحمل تدفع 150 مليارا دفعة واحدة بدون جدوى اقتصادية ولا استعداد أصلًا علشان تاخُد من وراهم قول 10 مليارات ضرايب، لكنه لم يترُك لى الفُرصة كعادته، وألقى بقنبلة عجيبة!

قال "إنت فاكر إن الحكاية ضرايب بس؟ تبقى أهبل".. فضول شديد لمعرفة باقى الحكاية أجبرنى على ابتلاع الإهانة ومعها نصف محتويات كوب ماء على دُفعة واحدة وعلى بطن فاضية مش على رُبع دستة حواوشى زى حضرته، وواصل هو كأنه مُدرس خبير يُحاضر تلميذًا خائبًا جايب أربع ملاحق في أولى ابتدائى "بندفع فلوس في ميكروباصات وتكاتك ومترو، وبنشترى فطار فول وطعمية وبصل ومخلل، وبنشرب شاى وحلبة وقهوة، وبنستهلك في المكاتب ورق وأقلام ومراوح ومكيفات وماء في دورات المياه، وساعات في أول الشهر بنقابل شحات أو واحدة بتجرى على أيتام فننفحها اللى فيه النصيب، كُل دى مصاريف وفلوس بتدخُل في اقتصاد الدولة، وتخلى العَجلَة تدور..

ناس بتدفع لبعضها البعض مقابل خدمات مُتبادلة، سواء من جيبها لجيوب الآخرين، أو من جيب المصلحة اللى هو القطاع العام لجيب القطاع العام (فواتير استهلاك الماء والكهرباء في مبانى الحكومة لأن الحركة بركة)، تخيَّل الموظفين مش موجودين بعددهم الحالى، سواقين الميكروباصات هيشتغلوا بدل العشرين دور دورين، وبتاع الطعمية هيقلى بدل الألف قرص علشان فطار الموظفين في المكتب ميت قرص بس ويمكن أقل، والقهوة اللى تحت المكتب صاحبها عنده ست عيال، بدل ما يلاقى سبعين موظف قاعدين عنده كُل يوم من 10 الصبح لا تناشر الظهر بيشغلوا مصانع المعسل وينفَّعوا مستوردى الشاى ويشجعوا مطاحن البُن هيلاقيهم عشر موظفين بس، يقوم الراجل ده ياكُل ويصرف على عياله منين؟ خلوا عندكم شوية مُخ!"

خُلاصة الكلام والدرس.. الحكومة تمنح رواتب لموظفين لا يعملون في خدمة الجماهير بشكل مُباشر، لكنهم يشكلون عبئًا على الطرق والمواصلات وأماكن العمل المُعطَّل فيها العمل أصلًا، لا من أجل سواد عيونهم، لكن علشان يصرفوها أثناء وقت فراغهم (اللى هو وقت العمل) على أصحاب المشاريع الصغيرة (عربية فول، فاترينة الكبدة، نَصبة شاى، حلة كُسكسى، شنطة عطَّار... إلخ)، وبالتالى يصل المال لمُستحقيه عن طريق موظفين وسطاء أوفياء يقومون بهذه المُهمة على أفضل وجه، فبلاش نظلمهم ونقول إنهم بيضيعوا وقت ومال الشعب في الفطار والشاى واللعب على الموبايل في وقت العمل، خاصةً إن سهل جدًا الواحد فيهم لو اتمسك وهو بيلعب على موبايله في وقت ومكان العمل (لو كان فيه مُدير أو مفتش فاضى للمُراقبة وضبط الواقعة في حينها) فسيكون المُبرر من جانب الموظف حاضر وفورى وهو يقول "كُنت بصبَّح على مصر بجنيه!" ثم يُطالبه بعلاوة منطقية استثنائية لا تقل عن ألف جنيه بدل وطنية إضافية!
الجريدة الرسمية