رئيس التحرير
عصام كامل

يحكى أن الدولة..


في أيام مشابهة لهذه الأيام جلس الحكيم المصري القديم القرفصاء عاري الصدر مفتول همة العقل يرص في أحجار النقش أمامه، من بين هذه الأحجار لفت انتباهه حجر معسل مُر، نظر إليه باستغراب واستشف ما سوف يأتي.. جمع الحكيم صغار البلاط والديار في البلاد، فالمصير الواحد يربطهم دائمًا، ولن تدوم قصور البلاط طويلا إذا خُرِّبت ديار البلاد..


قدم الحكيم الحجر لكل فرد من العقول التي أمامه، الكل يشد نفسًا وراء نفس إن يفهموا طلاسم نقش الحجر.. أبدا لم يفهموا.. فحكى الحكيم لهم بعد أن أخذ عليهم العهد بقبول الاختلاف ونبذ الخلاف، وأن البقرة لن تسير باتجاه البلاط فحسب.. قالوا له: آمين اختلافنا عمار!

وحكى الحكيم ونقش على حجر العقول، كانت هناك بقرة لونها يسر النفوس أينما مشت يحل الرزق.. للكل مِلك هي، لكل جائع وهاجع حتى العويل الغلبان منها له نصيب.. صارت البقرة مضرب الأمثال، ولغز العظمة في كل الحكايات والسير على مر الأزمان.. ومهما تهدمت الأمكنة، فمكانها باق.. خالدة مباركة هي.. كل من شافها وقع في هيامها.. كريمة ومتكبرة قوية وصابرة.. دافئة الضرع صلبة الحافر سهلة التسييس.. تباهى بها ناسها.. خافوا عليها من الضياع وطمع ضباع الجوار، فقرروا فتل أجود الحبال وتزيين عنقها بحبل متين، وربط قوائهما حتى لا تشرد بعيدة أو يسلبها أشرار اللصوص الغرباء.

مع مرور الوقت أهملت الناس البقرة، واعتنوا أكثر بالحبل وترميمه والتفنن في تجديده، وإضافات بعض المواد فيه، ليكون أكثر متانة وشدة.. ودبت في النفوس عروق التملك والتحزب، سلمها الحبل لناس دون ناس.. ربطوها في الوسية وحرموا منها كل الناس مع أن أصل حكاية الحبل أنه يكون الكل سواسية.

وفي هيصة المواسم تعلو أصوات الأنطاع نهيقًا بوضع المزيد من الحبال.. وفي بهرج مسح الجوخ للبلاط لم يدركوا أن في كل مرة تخرب الديار ويموت العيال وتهج الناس.. كل هذا لا يهم ساكني البلاط الذين أمعنوا في شد الحبال على عنق البقرة وربطها في وتد هواهم وما يوافق أمزجتهم.

وفي الشح قُسمت ناس الديار وطال وقوفهم بالطوابير قدام الحظيرة.. وفي اللهط وُزعت ناس البلاط واغتنموا وسمنوا وترصصوا على مقاعد الأبهة...

دارت المعارك وبزغ الحقد والكراهية والتهميش، وانقسمت الناس بين عشوائي وغلبان لا حيلة له وبين نفعي ووصولي.. وفوق كل ذلك لا أحد يريد التغيير، وإن حدث.. فمحلك سر بنفس ربطة الحبل.. لا هم ولا شاغل إلا فتل الحبال وترقيعها ووصل ما تمزق من القديم منها.. والأهم أن يظل الحبل مربوطًا في عنق الرقبة وبين أقدامها بإحكام وقوة..

وفي سبيل ذلك خرج المنافقون والمنتفعون يبثون الخوف والرعب في قلوب الناس، وينادون بأهمية الحبل الذي يفوق أهمية البقرة نفسها.. فلولاه لسقطت البقرة!

وها هو الحبل من شدة غلظته وعقده وشده.. حز وجز رقبة البقرة وأدمى قدميها.. كل هذا ومن في يده حبلها لاهٍ ومطنش وسايب الكل ينعر ويجعر ويبرطع ويعفر تحريضا على شد الحبل وتحزيم وتكتيف البقرة، وهد حيل الناس بالأونطة.. لئام فاقدي الرشد أم خبثاء في مص القوت والتكريش والتكويش على البقرة.

سكت الحكيم وبص للعيال قدامه، وقال: "البقرة.."- قاطعه عيل من العيال في عينه وسامة أمل في الغد وثقة في كل الناس: البقرة ما زال فيها الخير ويكفي لو....
ومع لو، لنا قعدة أخرى بعد سبعة أيام..
الجريدة الرسمية