رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون في السماء!


لم أسعد بنظرة غاضبة موجهة إلى شخصي المتواضع قدر ما أسعدتني من موظف أربعيني كاد يحرقني بها في عِز الصيف، وهو يجلس خلف مكتبه في مصلحة حكومية وقد تيبست أصابعه على مقبض دُرج المكتب، بينما تورَّطت أنا في إلقاء ورقة بعشرة لحاليح في ذات الدُرج الذي فتحه، وأنا أطلُب منه إنهاء بعض الإجراءات، ولم يكُن لفتح الدُرج من معنى إلا دعوتي للمُشاركة في رشوة حضرته كما اعتدنا، وأعقب نظرته الجميلة بثورة "جرى أيه يا أستاذ أنت فاكرني أيه"، لأطير أنا وأرفرف في الفضا وأهرب من الدُنيا الفضا أكثر وأكثر، وأصير أنموذجًا فريدًا للسعادة والفخار ببني وطني من الموظفين!


منحني درسًا سريعًا مُتقنًا جذابًا في الأخلاق والموعظة الحسنة، لدرجة ظني أنه هايستقبل بعدها مُكالمات المُشاهدين، أو مُمكن يطلع فاصل قصير ويعود، لكنه جذب الدُرج أكثر وأكثر للخارج وهو يواصل "أنا مش بفتح الدُرج وآخد رشوة زي بعض الناس، لكن أنا هعرض عليك حاجة تقبلها أو ترفُضها، دي إزازة بارفان مستورد، ببيعها بخمسين جنيه، ومش لأي حَد، دي للحبايب والناس الكُمَّل إللي زي حضرتَك"، كان الوقت صيفًا وبالنهار، وكُنت أغرقت نفسي بالبارفان ومُزيل العرق بعد الاستحمام الذي سبق خروجي من البيت مُباشرةً، فلم يكُن هُناك داعٍ مُلح لذلك العرض، لكن لم يكُن هُناك مُبرر أيضًا أن أتغابى وأرفضه فتتوقف المراكب السايرة عند مكتب حضرته، فقبلته ودفعت الخمسين جنيها في عملية بيع وشراء شرعية وقانونية لا تشوبها شائبة رشوة ولا فساد، لاسيما بعدما حصل قبول وتراضٍ بين الطرفين، وقُلت له كالبكر الرشيد "وأنا قبلت الشراء منك"!

لم يكُن البارفان مستوردا ولا حاجة، كانت إزازة مُعبأة تحت بير السلم بتتباع بنفس حالتها الراهنة في العتبة بسبعة جنيهات ونصف، وهذا هو سِر الجودة الذي جذبني نحو حضرة الموظف المُبتكر، الذي أحزنني جدًا فيما بعد استبعاده من الترشيح لجائزة الأوسكار كأحسن موظف مُمثل، فلم أنس قَط نظرته الغاضبة، وثورته المُدافعة عن الأمانة والشرف والإيمان بالمسئولية المُلقاة على عاتقه، وقال لي أحد الأصدقاء الساذجين فيما بعد إن نفس الموظف قام بأداء ذات الدور في مواجهته قبل أن يعرض عليه الإزازة إياها، ولمَّا رفضها صديقي الساذج، عرض عليه بخورا هنديا جاويا مُعتبرا العلبة بخمسين جنيها برضو، رغم أنها تُباع بالكتير بعشرة جنيهات في الموسكي، ولمَّا تمسَّك صديقي بعناده وسذاجته معًا، اكتشف الموظف المُحترم فجأة أن الأوراق ناقصة اثنى عشر توقيعًا وثلاثة أختام وست أصول وصورتين، فقرر الصديق التخلي عن سذاجته واشترى البخور، فحلَّت بركته فورًا على الأوراق، واكتشفوا في اللحظة التالية أنها مستوفاة تمامًا، وانقضت المصلحة بنجاح!

موظفة أخرى في أحد أروقة المحاكم، كان الوقت ظهرًا في عِز الصيف أيضًا، قامت برَص المواطنين العرقانين أمامها كأنهم في مدرسة ابتدائية، لله الحمد لم تطلُب منَّا القيام بتمارين الصباح، فالقاعة المُزدحمة بالمكاتب والموظفين وأدوات صنع الشاي وبواقي الساندويتشات وأواني تقميع البامية وتقطيع الكوسة، لم تكُن لتمنحنا المساحة الكافية لمُمارسة أي نوع من الحركة بأريحية، خاصة أن مُعظم الواقفين أمام المكاتب أو الجالسين خلفها يتميزون بكروش تتخطى نسبة بروزها المترين والثلاثة أمتار!

قالت صارخة "إللي مش هيقف في دوره مش هعمل له حاجة" وكانت مُحقة في ذلك، لكن المُشكلة أنها كانت مشغولة بإجراء عدة مُكالمات هاتفية دونما اهتمام بالدور ولا المُلتزمين إللي يستاهلوا يتعمل لهم حاجة، قالت لإحداهن عبر الهاتف "السمك ماعجبنيش المرَّة إللي فاتت والرُز كان معجِّن"، واعترفت لأخرى "(رشاد) كِبِر وخرَّف خلاص، ده كان هيحرق شَعر (سمية) الأسبوع إللي فات، تعالى نجرَّب (مُحيي)"، لم تهتم بإخفاء طبيعة المُكالمات بعيدة الصلة عن العمل ومكانه، بالعكس كانت بتتكلم كأنها قاعدة في الليفنج روم، ولِم لا والغلاية الكهربائية بجوارها تئز أزًا مُتشكيًا حتى حنَّت عليها، وقامت بصب الماء المغلي في مَج أحمر بدبدوب ليتحوَّل الماء إلى نيسكافيه احتسته بتلذُذ على طريقة إعلانات التليفزيون، حتى خُيِّل لي أن شعرها سيطير للخلف وهي تبتسم من فرط الانتعاش كما نرى على الشاشة!

قال لها أحد الشجعان في مُقدمة الطابور الطويل "يا مدام أرجوكِ خلَّصينا، إحنا ورانا مصالح"، ومن الواضح أن عين الحسود أصابت الرجُل حقدًا وكرهًا بسبب المركز المُتقدم الذي وصل إليه، دون أن يدري الحاسدون - وأنا منهم - أنه أنفق كثيرًا من عُمره وصحته ليصل لهذا المركز، فقد تعرَّض لموجة تعنيف من الأبلة الجالسة خلف مكتبها بعدما أزعجها وعكنن عليها حصة النيسكافيه، ولكن الحمد لله لم يكُن عقابه مُماثلًا لجريمته، فلم تلصق وجهه بالحائط وتأمره برفع ذراعيه لأعلى، ولم تطلُب منه كنس الفصل ورشّه بالماء، وإنما اكتشفت أن أوراقه ينقصها طوابع دمغة وفيش وتشبيه وصورتين شخصيتين وبيان قيد عائلي ونُسخة من جورنال الأهرام بتاع يوم 30 مارس 1989، وطلبت منه استيفاء الأوراق والعودة إليها في موعد أقصاه ربع ساعة قبل ما الخزنة تقفل، وقد حدث كُل ذلك دون أن تُلقي ولو نظرة واحدة على ما يحمله بين يديه اللتين تحوّلتا لصورة مُصغَّرة من دار حفظ الوثائق!

وقد كان الزبون التالي أذكى من الجميع، بل أكاد أجزم بأنه أكثر ذكاءً من الدكتور (أحمد زويل) ذات نفسه عندما مال عليها وهي تتحدَّث في الهاتف، وقال لها عبارة هامسة بابتسامة ماكرة، فامتدت أناملها بالقلم لتوقِّع له على ما يحمله من أوراق، فينصرف سعيدًا قبل أن أستوقفه وأنا أسأله بلهفة "أنت واسطتك مين؟"، أجابني بإباء "ماعنديش واسطة"، تداخلت الكلمات في حلقي وأنا أسعى لتكوين السؤال المُناسب واللائق بدون تجريح أو إحراج، فعاجلني بالإجابة لينقذني من الورطة "قلت لها أنتِ مش محتاجة (رشاد) ولا (مُحيي)، أنتِ كدة زي القمر".

تطلَّعت نحوها بذهول وهي تواصل الحديث في الهاتف مع توجيه بعض التعليمات العصبية للبلهاء في الطابور "الرجالة كُلهم ولاد كلب بس ساعات بتلاقي ناس بتفهم يا بنتي".. لم تكُن زي القمر ولا نيلة، وتسببت كذبة حضرته في نعت الواقفين في الطابور بأنهم ولاد كلب، فقررت أن أصون كرامتي وصحتي معًا وأصفها عند وصولي لمُقدمة الطابور بأنها أجمل من (نازك السلحدار) في ليالي الحلمية، رغم أنها لا تختلف كثيرًا عن (السبعاوية) في ذات المُسلسل، خاصة أن رضا موظفي الحكومة أهم وأغلى وأكثر نفعًا للمرء من رضا الأم والأب!
الجريدة الرسمية