رئيس التحرير
عصام كامل

تطوير الجامعات المصرية.. عندما تكون الثورة ضرورة (1)


معظم الملفات والقضايا التي تعاني منها مصر تحتاج لثورة، فالمسكنات لن تصلحها.. وأول هذه الملفات، بل أهمها على الإطلاق، هو ملف تطوير الجامعات المصرية، خاصة الجامعات المصرية التي وصل عددها إلى 61 جامعة ما بين حكومية وأهلية وخاصة، ورغم أن الجامعات جزء من التعليم العالي إلا أنها تشكل الملف الأهم.


وقبل أن نفتح ملف تطوير الجامعات، فمن المهم تحديد المفاهيم والإشكاليات التي تواجه هذا الملف.. أول هذه المفاهيم هو مفهوم الثورة: الثورة كمصطلح سياسي تعني الخروج على الوضع الرّاهن إلى وضع الأسوأ أو الوضع الأفضل.. ثورة تطوير الجامعات لا تهدف – بالتأكيد – إلى الخروج من الوضع الراهن إلى وضع أسوأ، فليس هناك وضع أسوأ من الوضع الحالي.. المفهوم الثاني يرتبط بالهدف من تطوير الجامعات المصرية، وهو مفهوم "جودة التعليم"، وقد تبنت منظمة اليونيسكو خمسة أبعاد لجودة التعليم، وهي: المتعلمون، بيئة التعلم، المضمون، عملية التعلم، ومنتجات التعلم.. وبرؤية لا تحتاج لكثير من التفحص في الأبعاد التي حددتها اليونيسكو لجودة التعليم، يمكن لنا أن نتعرف على الإشكالية التي تواجهها الجامعات المصرية، فهناك إشكالية ترتبط بالطلاب، وإشكالية خاصة ببيئة التعلم، وإشكالية ترتبط بالمضمون، وإشكاليات ترتبط بعملية التعلم ومنتجات التعلم.

ويبدو السؤال هنا: لماذا يحتاج تطوير الجامعات المصرية لثورة؟.. الإجابة ببساطة هي أن مصر ليس لديها الإمكانات الاقتصادية التي تحقق جودة التعليم في الجامعات المصرية، بالإضافة إلى الحالة المتردية المرتبطة بجميع مكونات جودة التعليم.. كما أن الحلول الجزئية المرتبطة بجودة التعليم قد فشلت، ففي عصر الرئيس مبارك، أنفقت الجامعات ملايين الجنيهات على جودة التعليم، ولم يتحقق شيء؛ لأن الجانب الأكبر من القائمين على الجودة، لم يكن لديهم الخبرة المرتبطة بجودة التعليم ولا الإمكانات التي تسمح لهم بتحقيق الجودة.. المضحك المبكي وقتها أن رئاسة وحدة جودة التعليم وقتها أصبحت مطلبا لكل مشتاق للمناصب.

وسأناقش خلال مقالتين، كيف يمكن للثورة أن تحقق للشعب المصري تعليما عالي الجودة كما نص الدستور، ولكن دعونا أن نتفق في البداية، على أن الثورة تتطلب تضحيات وتصادمات، وأنها لن ترضي الأسر المصرية ولن ترضي أعضاء هيئة التدريس، ولكنها ستحقق لمصر خلال خمس سنوات تعليما عالي الجودة.

الإشكالية الأولى ترتبط بالمتعلمين، وهي زيادة أعداد الطلاب عن الطاقة التي يمكن أن تستوعبها سوق العمل.. ويمكن من هذه الإشكالية أن نعرف أن القرار الثوري الأول الذي سيلاقي ثورة مضادة من الأسر المصرية هو تقليل أعداد القبول في الجامعات ما بين 10% - 20% من الأعداد التي تقبلها الجامعات حاليًا.. فإحدى الخطايا التي يتم ارتكابها في حق جودة التعليم هو قبول أعداد من الطلاب دون وجود أي تفسير أو أسباب منطقية ترتبط بقبول أعداد متزايدة من الطلاب.. فكليات الحقوق في مصر – والأرقام من موقع "موجز مصر" – قبلت هذا العام نحو 42 ألف طالب وطالبة (انتظام وانتساب)، فهل مصر في حاجة إلى 40 ألف محام بعد أربع سنوات؟.. الإجابة ببساطة هي النفي، فمصر لديها من المحامين ما يكفيها لأربعين سنة، حتى لو تم إيقاف القبول بكليات الحقوق لعشر سنوات قادمة.. وهل يمكن أن نعرف لماذا يتم قبول نحو 66 ألف طالب وطالبة (انتظام وانتساب) في كليات الآداب، في حين يتم قبول نحو 12 ألف طالب فقط في كليات الزراعة، بينما يجب أن نسعى لاستزراع كل بقعة في صحراء مصر؟

لا ترهق نفسك في البحث عن إجابة منطقية لهذا التناقض.. فعدد الطلاب والطالبات الذي تم قبولهم في الجامعات والمعاهد خلال عام 2013 - 2014، والمقيدين بهذه الجامعات، وفقا لموقع المجلس الأعلى للجامعات، بلغ 1420391 (مليونًا و421 ألف طالب وطالبة تقريبًا)، بينما مصر ليست في حاجة لأكثر من 284 ألف طالب، على أن تتم زيادتهم بالتدريج وذلك حسب سوق العمل.

المستوى العلمي للحاصل على الثانوية العامة في مصر – من غير خريجي المدارس التي تهتم باللغة الإنجليزية –لا يدعو فقط للحزن بل للبكاء والعويل؛ ولأن اللغة تعتبر البوابة للطلاب لاستكمال دراستهم في الخارج، فإنها على الجامعات أن تحدد حدا أدنى من اللغة الأجنبية يتوافق مع سوق العمل، وعلى الطالب الذي يسعى لاستكمال دراسته الجامعية أن يسعى خلال سنوات دراسته بالمرحلة الإعدادية والثانوية، إلى تطوير مستوى اللغات الأجنبية لديه.

تقليل عدد الطلاب المقبولين بالجامعات سيمكن الجامعات في الوقت نفسه، من تخصيص جزء من ميزانياتها لتوفير دعم مالي للطلاب الراغبين في الحصول على دورات لتطوير المهارات اللغوية بشكل مستمر.

الإشكالية الثانية ترتبط بالجانب الاقتصادي في عملية التعلم، فمن بين القرارات الثورية التي لن يتقبلها الناس هو أن يكون التعليم الثانوي آخر مراحل مجانية التعليم، فأعتى الدول الرأسمالية المتقدمة لا تستطيع توفير تعليم جامعي مجاني لطلابها.. ويتطلب تطوير التعليم أن تكون مجانية التعليم تنافسية، فيحصل الحاصلون على 90% فأكثر على منح مجانية من الجامعات، ويجب على الطالب أو الطالبة الحصول على 85% على الأقل لاستمرار المنحة المجانية.

وثورة تطوير الجامعات تقترح إنشاء بنك للطلاب، يمنح للطالب قرضا حسنا، يتم منحه للطالب خلال الدراسة على أن يتم ربط عمل الطالب داخل مصر أو سفره للعمل للخارج بتسديده للقرض الدراسي، وربط الأجر الذي يحصل عليه الطالب بعد تخرجه بالرقم القومي للطالب، وفكرة القرض الدراسي تطبقه الولايات المتحدة وكندا.. ويمكن للجامعات أن تعمل على توفير التمويل اللازم لهذا القرض من خلال استخدام الإعلانات في الجامعات، ومنح رعاية تنظيم حفلات ترويجية، وتأجير المطاعم في الجامعات، ومن خلال الجمعيات الأهلية، ورجال الأعمال. 

ويتضمن القرض مصروفات طباعة الكتاب الجامعي، بحيث يكون هناك مكان مخصص لبيع الكتب الجامعية.. فكرة القرض الجامعي ستدفع بعض الطلاب للعمل والدراسة في الوقت ذاته، كما يحدث في الكثير من الدول المتقدمة، حتى يتسنى له تسديد جزء من القرض الدراسي.

الإشكالية الثالثة ترتبط بـ"بيئة التعلم"، فطالما قلت لطلابي في إحدى الجامعات الحكومية: "أنتم طلاب بلا جامعات".. فكل شيء في الجامعات الحكومية متردٍ: غياب تام للتجهيزات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، المباني يدخلها الضوء من جميع الجهات ولا يوجد بها ستائر، القاعات غير مجهزة بأساليب عرض، وإذا كان هناك جهازان للكمبيوتر على اتصال بشبكة الإنترنت فهو نصرة من عند الله، دورات المياه مهترئة ويتم استخدامها في عمل الشاي أحيانا، المصاعد لا تعمل، مقاعد لا تصلح للجلوس، فضلا عن عدم وجود قاعات للدرس بخلاف قاعات المحاضرات.. البنية التحتية للجامعات ومبانيها تحتاج لثورة كاملة، ويمكن الاستفادة من مصروفات الطالب في تطوير البنية التحتية للجامعات.

هذا البرنامج الثوري سيعطي أعضاء هيئة التدريس فرصة لتقديم المادة العلمية لعدد أقل من الطلاب، وهو ما سيساعد على تحقيق طفرة في إشكاليات أخرى مرتبطة بعملية التعلم، منها التواصل بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ومنها ما يتعلق بعمليات التقييم والامتحانات، ومنها ما يرتبط بالوقت المخصص لإجراء أبحاث علمية، وهو ما سأتناوله في الجزء الثاني من ثورة تطوير الجامعات في مصر.

علينا أن نفكر بشكل غير تقليدي لتطوير الجامعات، وأن نعترف بشكل جدٍ بنظرية "العرض مقابل الطلب"، فزيادة عدد الخريجين بأعداد تكفي لسداد احتياجات أسواق العمل في عدة دول، أدى إلى تدهور بل وفاة القيمة "السوقية" لخريج الجامعات المصرية، وانخفاض مستوى التعلم نتيجة لحشر مليون وربع المليون طالب في جامعات لا تستطيع إمكانياتها وأعضاء هيئة تدريسها تعليم أكثر من ربع مليون طالب.

بقاء وضع الجامعات المصرية على ما هو عليه سيزيد التعليم والجامعات تدهورا.. يبقى ألا يتحول برنامج تطوير الجامعات لسبوبة، يتم من خلالها إنشاء وحدات ترتبط بدورات "غير ذي قيمة حقيقية لأعضاء هيئة التدريس"، كما كان الحال عليه في برنامج "جودة التعليم" في معظم الجامعات المصرية.
الجريدة الرسمية