رئيس التحرير
عصام كامل

المصريون كما هم


«حديث عيسى بن هشام» كتاب قديم وهو سلسلة من المقالات مسجوعة بإتقان لعيسى بن هشام، راوي مقامات الهمزاني، جمعت في كتاب عام ١٩٠٧، وإن كان الشكل العام للكتاب يبدو كلاسيكيا فإن فحواه حديث جدا لدرجة أنه اعتبر همزة وصل بين الأدب العربي القديم وبين الأشكال الفنية الحديثة.

في بداية الكتاب، كان الراوي يمشي بين المقابر وخرج عليه رجل من قبره حيًا ويعرفه بنفسه لاحقا بأنه أحمد باشا الحنبيلكي وزير الحرب المتوفي في عهد محمد علي باشا، ويطوف الرجلان أرجاء القاهرة وهى في طور التغير، وفي البداية يُقبض على الباشا لتعديه على صاحب حمار «مكاري» وهنا تنكشف الفوضى في النظام القضائي، ثم يمضي الكتاب ليقارن بين الحياة في الريف والمدينة وبين الذوق والقيم التقليدية التي يمثلها العمدة وبين العادات الغربية التي تمثلها شخصية الشاب الخليع.

وأعرض بعض محتويات هذا الكتاب لشدة التطابق بين أحوال المصريين هذه الأيام وأحوالهم منذ أكثر من قرن:-

فمثلا.. عندما توجه الراوي والباشا إلى قسم الشرطة وجدا حضرة المعاون غارقًا في نومه، أما الصول فوجداه يأكل والقلم في أذنه وقد خلع طربوشه وخلع نعليه وحل أزرار ثيابه وكالعادة أمر بوضع المتهم في التخشيبة حتى يعرض على النيابة ويكشف عن سوابقه، وفي النيابة يذكر حديثًا بين وكيل النيابة وأحد أصدقائه حول رباط العنق الفرنسي وعن سهرة في «سامنتي»، أما عن القانون فيذكر أنه يحكم بقانون نابليون الفرنسي الذي أقره مفتي نظارة الحقانية بأنه غير مخالف للشريعة الإسلامية.

أما عن الصحافة، فيقول إن بعض المشتغلين بها اتخذوها حرفة للتعيش والبعض يخدع وينافق، ومن الصفوة من يرجو من الأيام أن تدور يوما لتهذيب هذا الحال ورفع هذه الصناعة إلى الدرجة اللائقة بها.. ويتحدث الراوي عن المحامين بمناسبة مقاطعة أحد القضاة له.. أن بعضا من المحامين اعتاد أن يأتي من مرافعته بتاريخ نشأة الخليقة ولا يكون لمرافعته أقل ارتباط بجوهر القضية؛ لأن أرباب القضايا يعتقدون أن المحامي لا يستحق أجره إلا بكثرة ما يقال، ويصف صورة الأحكام بأنها سطور وخطوط لا يستطيع أن يحلها إلا من كان عريفًا في كشف الرموز.

أما عن الأطباء، فبينهم من لا يرى في صناعته إلا آلة لاجتلاب الرزق ليصحبوا في مصاف أهل الغنى، ويصف بعض الأدوية بأنها فادحة لمصلحة الصيدلي «شركات الأدوية الآن» وقد راج سوق الطب، أما حوانيت الصيادلة فغدت أكثر عددا من حوانيت الخبازين والقصابين.

أما عن التعليم فيرى أن التلميذ يحفظ ويؤدي كالببغاء، ثم يتأبط صك الشهادة وينفض يده عما تعلم، ثم يعتلي وظيفة ويصبح كالعامل لا العالم، وقل منهم من يصبو للعلم والأدب.. ملوه ونبذوه حتى الصحيفة لا يقرأونها.

ويتوجهان لحضور عرس فيقول: ما قربنا من مقصدنا حتى وجدنا الليل هناك نهارا يتألق ويترحب الساحة في يوم الزينة، أما صاحب البيت فلا نهتدي له على قرار.. هو مشغول بتحية كبار القوم ممن لم يخالطهم من قبل، يدعو الناس إلى أعراسهم كل من علا له صوت وصيت ومن الكبراء والأمراء من بينهم من لا يجيبون للداعي رجاء ومنهم من لا يتخلفون مرة عن إجابة الداعي حتى أصبحوا أساطين الأعراس.. وتقام هذه الولائم حبا للشهرة والفخفخة، حتى لو أنفق كل أمواله، وبعد الطعام ينصرف الجميع.. يد في الكباب ورجل في الركاب.

وعن جنوح «العيال» فيقول: فليت وليدا مات ساعة وضعه.. ولم يرتضع من أمه النفساء، وعن البخيل: يعيش في الدنيا عيش الفقراء.. ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

وعلق على منع بعض الشيوخ الاستماع إلى الموسيقى بقوله: قل أن تجد دينا من الأديان في أنحاء العالم إلا يستعان فيه على العبادات بالترتيل والترنيم والتنغيم لما ينشأ عن ذلك من صفاء النفوس والأرواح للتجرد، والاتصال بالعالم الروحاني، وما كان الدين الإسلامي وهو دين الأذان، لينكر سماع الغناء ويحكم بكراهيته - وقد استقبل النبي محمد نسوة من الأنصار عند مقدمه من إحدى الغزوات بالدفوف والمزاهر، وهن يتعين على الإيقاع: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع - فلم ينكر ذلك عليهن، أما عمر بن الخطاب فقد سمع الغناء ولم ينكره أو يكرهه بل استعاد ومزح.

ويسترسل الراوي للرد على الشيخ المتخلف على لسان شاب يدافع عن التحضر في الأفراح، هل تريد هذا الفرح أن نبدل المقاصير بالخيام والكهرباء بالمشاعل والبوفيه بالسماط والصحاف بالقصاع والمايونيز بالعصيد وعش الغراب بالحلبة والموستاردا بالمش والكريز بالجميز والشمبانيا بالمزهر والموسيقى بحلقة ذكر، والباليه بالحجلة و«مس أوستن» ببنت أم شنب وموكب الزفاف بلعب الهوارة، وسعف النخيل بدل أكاليل الأزهار والرياحين.. إلخ.

والآن هل تبدل حال هذا البلد منذ قرن من الزمان؟!

adelwadie@yahoo.com
الجريدة الرسمية