رئيس التحرير
عصام كامل

بلفور وأوباما


جاء في التوراة:
«ويشتتكم الرب بين الأمم فتصبحون أقلية بين الشعوب التي يسوقكم إليها.. تثنية ٤: ٢٧» بذلك تحقق وعيد الله لشعب بني إسرائيل وعاش ويعيش في الشتات حتى الآن.. ولأن الشعب اليهودي شعب جوال حرفته الرعي، ولم يحترف الزراعة لدا لا يرتبط بأرض بعينها كما هو الحال مع المصريين.


وحتى مع مرور الزمن وتطوره، لا يلتصق بوطن ولا يستقر في مكان، لكن تغلب عليه المادية والمصلحة فوق العقيدة، فهم يتنقلون حسب التغيرات الاقتصادية والسياسية، تارة يفضلون الدول الأفقر المتخلفة، يمارسون فيها أنشطتهم التجارية المشبوهة، وتارة أخرى يتوجهون نحو البلاد الغنية أو الواعدة.

وقد بدأ الشتات «Diaspora» أيام الغزو الآشوري ثم البابلي، وبعد الاستيلاء على أورشليم وهربًا من الرومان، بدأت الهجرة إلى الجزيرة العربية واليمن ومصر، وتتوالى الهجرات إلى روسيا ودول شرق أوربا، ثم عن طريق المغرب إلى إسبانيا، ومن إيطاليا عبر جبال الألب إلى فرنسا وألمانيا، أما أهم المواقع كان روسيا وبولندا والنمسا، لكن بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت أسرابهم في الاتجاه نحو الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، ثم يأتي الحكم النازي في ألمانيا ليكون نقطة تحول خطيرة في مستقبل الشعب اليهودي، حين اتسم عهد هتلر بكراهية شديدة تجاه اليهود ففروا من ألمانيا والنمسا وبولندا؛ خوفًا من التصفية العرقية والمحرقة التي تعرض لها «روجيه جارودي» في كتابه!

«الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» في الفصل الثالث بعنوان «أسطورة وخرافة الملايين الستة»؛ حيث أنكر أن الكارثة التي عاشها اليهود لم تكن واسعة النطاق، بل كانت ضمن كارثة إنسانية قُتل خلالها خمسون مليونًا من البشر.

ولم يكن سعي «جيمس بلفور» لإقامة وطن قومي لليهود حبا فيهم؛ «حيث قاوم دخول المهاجرين إلى بريطانيا»، لكن كان نتاج تغيرات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانكسار الإمبراطورية العثمانية، وهرولة بريطانيا لأخذ أكبر نصيب من الكعكة، ونجحت عام ١٩٢٠ في فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد كان الجو العام الأوربي قد ضاق باليهود، ونشأ الاعتقاد بأنه ليس من مصلحة أي بلد أن يقوى نفوذ اليهود فيها، وأصبح إنشاء دولة صهيونية ضرورة.

ولا يخفى على أحد المصلحة البريطانية في قيام هذه الدولة في هذا المكان من العالم.. فبجانب التخلص منهم وإزاحتهم بعيدا في فلسطين، ستكون هذه المنطقة ليست بعيدة عن النفوذ الاستعماري البريطاني، وأيضا قيام دولة إسرائيل ستشكل كيانا غربيا يخدم المصالح الغربية، ويهدد الحضارة العربية، ويزرع حضارة غربية تضمن التواجد المستقبلي لهذا الغرب في المنطقة.

كان هذا السرد لمقارنة ما حدث مع قيام دولة إسرائيل وما يحدث الآن بمحاولة قيام دولة إسلامية في العراق والشام isis لتنظيم داعش.. فمن ناحية الشتات، فهم الآن مشتتون في العالم ويسعون لإقامة دولتهم في أجزاء من سوريا والعراق.

وإذا كان الشتات اليهودي تم بقرار إلهي، فالشتات الداعشي تم بقرار شيطاني.. أما بلفور فأصبح أوباما الأمريكي بمساعدة بريطانية.

وكما صرح جون ماكين، فإن ٧٥٪ من الطائرات تدخل مواقع داعش وتعود دون ضربها، كما تم رصد رتل مكون من مائتي سيارة تحمل الأعلام السوداء دخلت سوريا عن طريق تركيا، وفوق منها تحلق طائرة أباتشي أمريكية تحرس هذا الرتل من سيارات داعش، كما اعترفت هيلاري كلينتون أمام الكونجرس، بأن أمريكا هي التي زرعت بذور الإرهاب والجماعات التكفيرية.

كما أن المرشح الجمهوري «راند بول» كان أكثر صراحة، واتهم الإدارة الأمريكية بدعم تنظيم داعش الإرهابي.. والواقع أن العالم بالنسبة لواشنطن انقسم إلى جبهتين: الأولى روسيا ودول العالم الثالث، التي اعتبرتها أداة يستخدمها الروس، والثانية الولايات المتحدة والإسلام المتطرف المسلح، الذي استخدمته بدورها للتصدي للفكر السوفيتي، وداعش ما هو إلا وسيلة صنعتها واشنطن؛ بهدف تقسيم الشرق الأوسط الغني بالبترول، إلى جانب اللعب على فزاعة إيران وإشعال العداء التاريخي بين السنة والشيعة.

أما بريطانيا فلا تستطيع أن تخفي عداءها الدائم لمصر، حين يربط كاميرون في مؤتمره الصحفي مع الرئيس السيسي بين حادث سقوط الطائرة الروسية، وقرار سحب البريطانيين السائحين ومنع طائراته من الهبوط في سيناء، وبين إشراك الإخوان في الحكم كما يلوح للجماعات الإرهابية بالعودة إلى مصر؛ بهدف طردهم من أوربا بإغرائهم بإمكانية الاشتراك في حكم بلادهم، وهو يسير على نفس خط سيده في البيت الأبيض، الذي صرح بعدم إمكانية نجاح تسوية في سوريا ما لم يتم احتواء داعش.

وبعد مرور أكثر من عام على الحرب ضد الإرهاب في سوريا ولعب أمريكا مع العيال، بدأ دور اللعب مع الكبار بتدخل روسيا، التي ستقوض الهدف البريطاني الأمريكي بطرد الدواعش من أوربا وتوطينهم سوريا.
الجريدة الرسمية