رئيس التحرير
عصام كامل

الفساد الذي في خاطري؟


على مدى عصور عديدة كان ولا يزال الفساد هو محور نقاشات كثير من المثقفين والسياسيين وحتى على "مصاطب" البسطاء من الشعب.. فساد خرج من العمل في الظلام ليصبح واقعًا ملموسًا، يعيشه كل مواطن فكر في التعامل مع إحدى مؤسسات الدولة.. فساد تحول من حالة عَرَضية يعاقب عليها القانون، إلى أن أصبح هو في ذاته قانونًا للتعامل بين الدولة والشعب!


فساد لم تنكره حكومة ما قبل ثورة يناير، ولا التي جاءت بعدها.. فلا ننسى تصريح زكريا عزمي في أواخر حكم مبارك، بأن الفساد في مصر "وصل للركب"، ولم تنكره المؤسسات الدولية؛ إذ أن مؤسسة الشفافية الدولية وضعت مصر في المرتبة قبل الأخيرة في عام 2014م، من على مؤشر الدول الأكثر فسادًا، فجاءت مصر في المرتبة 149 من بين 150 دولة!

فساد لم يصلحه دين جماعة "الإخوان" إبان حكمهم؛ حيث أسفرت الدراسات عن أن 67% من الذين تعاملوا مع مؤسسات الدولة في زمن الإخوان دفعوا "رشوة".. فساد لم تتمكن وطنية "السيسي" ولا إرادته الحديدية من القضاء عليه؛ حيث حصلت مصر على المرتبة "94" من 177 دولة على مؤشر الفساد - حسب تقرير الأمم المتحدة للفساد - التي أرجعت تقدم مصر على مؤشر الفساد إلى القوانين الحديثة التي تبنتها حكومات السيسي.. فكان التقييم فقط لجملة القوانين وليس لواقع الشعب المرير!

فهل بالإصلاحات القانونية وحدها يمكن أن نواجه الفساد، أم أننا بحاجة لممارسات قانونية عادلة، يحسها المواطن العادي قبل أن تتلقفها التقارير الدولية؟!

فساد لا يزال يأكل من قوت الشعب كما يأكل من كرامتهم.. فساد باعترافات البنك الدولي، أنه جعل برامج التنمية في مصر مصدرا مهما لإفقار الشعب.. واصفا التنمية في مصر بأنها غير "عادلة"، هَمَّشَت الصعيد فجعلته "هشًا".. وتركت أبناءه فريسة للجهل والمرض، وصراعات الثأر التي أودت بأرواح العشرات من خيرة شبابه.. تنمية سببت الفقر، وجعلت المرأة تتحمل العبء الأكبر من "تغييب" العدالة؛ فصارت تحمل فوق عاتقها، بالإضافة إلى الجبال الثلاث التي يحملها الرجل على ظهره من "فقر وجهل ومرض"، تحمل المرأة جبلا ًرابعًا هو "الرجل" نفسه!

فساد جعل التنمية مصدرا مهما للجريمة في الريف والحضر على حد سواء.. تنمية كرست بسبب عدم توازنها التهميش والإقصاء الاجتماعي.. واستُغِلَّت عوائدها ليست في تحسين أحوال الشعب، ولكن في شراء أسلحة للتخريب والقتل.. ظهرت بجلاء إبان ثورة يناير؛ حيث وصلت معدلات الجريمة إلى 200%، وهي نسبة خطيرة لم تشهدها مصر من قبل، ولا أيام حربها ضد الاستعمار!

ومن ثم فلم يعد الفساد يدا تنتقل من يد المواطن إلى جيب المسئول.. بل صارت منهجًا تَجَذَّرَ في ذمم الشعب وفي ضمائرهم.. بات له من الآليات ما يجعله يستعصي على أي قانون يُحاسب مُرتكبيه.. فساد ساعدت في توطينه داخل مؤسسات الدولة حالات الانفلات الأمني وقصر عمر حكومات ما بعد 2011م.. التي صارت تتغير قبل أن يستكمل الوزير قراءة ملفات الوزارة التي يحمل حقيبتها.. فوجد صغار الموظفين في ارتعاش يد المسئولين بيئة خصبة لارتكاب كل أشكال الفساد، وبصورة عجزت كواهل المواطنين البسطاء عن تحمل ضغوطها.

فساد لا يصلحه تغيير حكومة ولا إقالة كبار مسئولين ولا حتى الإطاحة بنظام سياسي برمته.. بل صار أي تغيير في رءوس الأنظمة بيئة خصبة لممارسة مزيد من جرائم الفساد بشتى صورها، من رشوة واختلاس وابتزاز ومحسوبية.. لدرجة جعلتنا نبحث من جديد عن مفهوم آخر للفساد.. أوسع بكثير من ذلك المفهوم الضيق الذي حصر الفساد في الرشوة والاختلاس.. مفهوم لا يُعَرِّف المفسد فقط بأنه من "اختلس أو ارتشى".. ولكنه ذلك الشخص الذي عندما عُرِضَت عليه مصلحة الوطن فكر - ولو للحظات - في نفسه!.. خاصة إذا كان الوطن يمر بظروف استثنائية؛ جعلت منه فريسة للمتآمرين الذين اجتمعوا على إسقاطه.. فزرعوا لهم أذرعا في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها الرسمية والمدنية، وحتى داخل كهوف العبادة!

إن الفساد الذي في خاطري هو فساد الفكر والطريقة.. وأقصد به فكر السياسيين، الذي صار أضيق من أن يضع خططًا لاستئصال جذور الفساد.. فكر لا يزال يدعو إلى الاحتفاظ بأهل الثقة في مراكز القيادة والمسئولية، وإقصاء أهل الخبرة والكفاءة؛ ليس لسبب سوى لأنهم ربما يختلفون - ولو قليلًا - مع فكر القائد أو المسئول.. فكر عاجز عن أن يعيد هيكلة المؤسسات ويغوص في دهاليز الدولة العميقة، والاستفادة من التكنولوجا التي تجعل المسئول "مُراقبا" آليًا من قِبَل الحَسُوب الذي على مكتبه!

أما فساد الطريقة فأقصد به الطريقة التي لا يزال النظام يختار بها قيادته، وهي الطريقة الأمنية البحتة.. وكذلك الطريقة التي يتعامل بها المسئول مع المواطن.. فلن تتحرر مصر من كبوات الفساد إلا إذا تمكن الأكفاء من مواقع المسئولية.. وصارت الشفافية عنوانا للتعامل مع الجماهير.. وصار المسألة الاجتماعية قانونا يقره النظام الحاكم ويحميه.. وصارت شكوى المواطن هي "البعبع" الذي يخافه كل مسئول!.. ولن تتحقق التنمية إلا إذا تمكن النظام من "إطعام الفقراء.. وردع المفسدين.. وتشغيل المُعَطَلين"!

Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية