رئيس التحرير
عصام كامل

الطريقة الجهنمية لاختراع الشيء من اللاشيء

فيتو

كانت تجلس على الرصيف الملاصق لمبنى المصنع المتهالك ساعات وساعات، سيدة ريفية أربعينية العمر، ثيابها ملونة مهلهلة تحمل بقايا ثراء قديم، وجهها ممصوص وشاحب وعيناها زائغتان، لكن فيهما مذلة الكون. 

أيام وأيام لا يتغير أي شيء في جلستها، هي على ذات الوضع، تصورنا أنها شحاذة، لكنها لم تطلب قط أي "شىء لله"، تصور أحدنا أنها من المعارضين لإغلاق المصنع أو أنها من المقيمين في المنزل الذي انهار منذ بضعة أيام وما زالت بقاياه في عرض الطريق دون تدخل من بيده الأمر لحماية خلق الله من برد الشتاء وتوفير معيشة إنسانية.. لكن كيف يفعلون؟ ولماذا يفعلون؟ هذا الرأي من أحد زملائنا بدا منطقيًا، ولكنه لم ينف شكوكنا حول السيدة، ماذا تفعل هنا كل يوم؟ 

منتصف الحكاية كان كالتالي: بعد فترة أظنها طويلة وجدت فوطة متسخة في يدها، تقترب بها مترددة وخائفة من زجاج سيارتي، استغلت انشغالي بتدوير الموتور، وتنزيل الفرامل، وبدأت في مسح الزجاج بهمة، ومنه إلى جسم السيارة.

أعطيتها "اللي فيه النصيب"، ومن بعدها وجدتها تفعل ذات الشيء مع سيارات أخرى، وفى إحدى المرات وجدت لدى فضولا غريبا أن أعرف قصتها التي لم تتردد ولو لثانية واحدة في سردها، اسمي عبير من سوهاج على باب الله، ظل التساؤل: لماذا اختارت شارعنا وهو صغير جدًا وليس حيويًا، معظم من فيه، سكان، أي ليسوا بحاجة لأن ينظف أحد سياراتهم؟ بعد المنتصف: زادت حركة السيدة، وارتفع صوتها تدريجيا" آه يمين، شمال شوية، بس.. بس".. ليركن سيارات الجميع، ومع الفوطة المتسخة، أصبح هناك "جردل" به ماء وصابون وغيرهما من المستلزمات، كانت تنظف بنشاط وهمة غريبة السيارات، وتتحدث مع الجميع بصدق وأدب ولا تتردد في سرد حكايتها لأى عابر سبيل.

بعد فترة وجدت معها شابًا، أقل منها في السن، والحجم، وبالطبع ارتفع صوتها أكثر، وزال ترددها، وأصبحت في مكانها طمأنينة ما واستقرار ما، يتم ركن سيارات عديدة معا، وتجرى وشريكها هنا وهناك.. وتوقف من كانوا يعتبرونها غريبة ومريبة، وخفت الشكوك تقريبًا.. لقد أصبح وجودهما طبيعيا. 

ما بعد منتصف الحكاية: هي دى الطريقة الجهنمية المصرية المبتكرة لاختراع سكة لأكل العيش، الطريقة الجهنمية لاختراع الشيء من اللاشيء.
Advertisements
الجريدة الرسمية