رئيس التحرير
عصام كامل

طوبى لمن أهدى إليَّ عيوبي


كتبت على صفحتي منذ أيام مقالا كحديث النفس، هو في المصارحة والنصح غير ضنين، كان نتيجة غضب ويبدو أنه أغضب البعض.

يختلف الحديث الذي نُسِرُ به لأنفسنا عما نوجهه للعالم الخارجي، فبالرغم مما كتبت عن وجوب توظيف مصر لحادث الطائرة الروسية لكسب الدعم الخارجي لها في حربها ضد الإرهاب الذي لم يستثن بلدًا، قلت أيضا إنه يجب علينا ملاحقة جماعة خائنة للعهد اخترقت مناحي الحياة في مصر بصورة تستوجب منا حربهم؛ اتقاءً لشرورهم، ما يدحض فكرة المصالحة والدمج من الأساس.


وقد يكون ما أغضب البعض أنهم اعتبروني أستبق التحقيقات التي توقعت نتائجها لمعرفتي بتوافر الأسباب، إلا أن حديث النفس اختلف؛ لأنه يستوجب الوقوف معها والمصارحة، ولتغضب النفس؛ ذلك بأن عليها أن تغضب، وقد أغضب الناس الحديثان، العام للاستباق والخاص للمواجهة، ولكن عملا بالمثل القائل "يا بخت مين بكاني وبكى علىَّ ولا ضحكني وضحك عليَّ" قلته وأقوله ثانية، يا نفس قد انقضى وقت التراخي وحان وقت الجد، لم يعد هناك بد مما أجلتِ وتلكأتِ عنه، فقد ضاقت عليك كل الحلقات وقاربتِ على الاختناق إما أن تكوني أو لن تكوني.

أقر وأعترف بأننا شعب متواكل لا تعنينا الدقة ولا الجدية ولا الإجادة، لا نعرف الالتزام حتى أصبحت حالة ميئوس منها غير مؤهلة للتعامل مع الكون الخارجي الذي يتعامل في كل مجالات الحياة كبيرها وصغيرها، طبقا لمعايير الجودة العالمية ونحن في غفلة عنها ساهون، والآن حين قرر الكون الخارجي اعتزالك مما رأى منك وعنك، تغضب!

عقدت المقارنات لماذا نحن تحديدا ولم يستثنِ الإرهاب أحدًا؟.. وها هي أكثر الدول تقدما وتحضرا تعاني مما عانينا منه في ظل تعاطفٍ دامغٍ من العالم لم نستثن منه نحن أنفسنا، لم يتهمها أحدٌ بالتقصير ولم يهددها أحدٌ بالمقاطعة مثلما فعلوا معنا!.. ألسنا جميعا في الهواءِ سواءٌ؟

لا يا سيدتي لسنا جميعا "في الهواءِ سواءٌ"، أن يصيبكِ حدثٌ دون تقصيرٍ منك غير أن يصيبكِ حدثٌ وتقصيركِ ملؤ الأعين والآذان، هم دأبوا على الإجادة ولم يألوا جهدا في ذلك، وما دأبنا نحن على ما دأبوا عليه!.. هذه هي الحقيقة وهذه هي المشكلة، استهنا بكل شيء وبأرواحنا فهُنَّا.. تعاملنا مع الخطر بمنتهى الإهمال والتراخي والتواكل فلم نلق إلا الإهمال.

نحن لا يعنينا أن نقابل الموت نحن أو غيرنا في كل لحظة، تعايشنا مع الإرهاب وحاربنا الإرهابيين فلا أرضا قطعنا ولا ظهرا أبقينا، يواجهنا الخطر في الأفكار وفي العقول كما في التراث، يحيط الخطر حياتنا اليومية ونحن نعبر الطريق ونحن نستقل سياراتنا في شوارع محفوفة بالمخاطر، لا طريقا آمنا ولا قيدا فرضنا أو عقوبة على من يمنح رخص القيادة، للمدمنين والأميين ومن لا يجيدون القيادة أو من لا تسمح ظروفهم الصحية والنفسية، كلهم يملأون الشوارع يقودون السيارات، حتى أصبحت مصر تتصدر العالم في حوادث الطرقات، تلك نتيجة حتمية لفساد الإدارة.

ركاب الدراجات البخارية يملأون الطرقات لا يرتدون خوذا ولا أحد يسائلهم ولا هم عن أنفسهم يَسْألون!.. أصبح خبر استشهاد ضباط الشرطة والمحيطين بهم من المواطنين أثناء تفكيك القنابل التي يزرعها الإرهابيون في كل يوم أمرا عاديا؛ نتيجة لعدم الاهتمام بارتداء الملابس الواقية، وحب المارة في التجمهر حول رجال الشرطة وهم يؤدون هذه المهام الخطيرة على سبيل التسلية والمتعة، في غياب تام للوعي ودونما اعتراض أو ممانعة من أحد!

من العادي والطبيعي أيضا في مصر، أن تنهار بناية فيدفن سكانها تحتها؛ بسبب غش في الأساسات أو مواد البناء أو لأن عمرها الافتراضي انتهى، ولم يهتم أحد بإخلائها ولم يكترث السكان، أو نسمع أن أحدهم مات مصعوقا في مصعد أو هوى به المصعد من الطابق العلوي لعيب في الصيانة أو الصناعة.

أو أن أطفالا ذهبوا لرحلة مع المدرسة فغرقوا جميعا في البحر أو في مركب في النيل؛ بسبب الإهمال وسوء التقدير في ظل غياب فرق للإنقاذ!.. أو أن حائطا انهار على التلاميذ أو أن نافذة سقطت عليهم فقتلتهم، أو أن ثعبانا أو عقربا لدغ طالبا في الفصل وكأننا بين الأدغال أو في الفيافي!.. أو أن أستاذا ضرب طفلا فقتله، أو أن طفلة تصعق في حمام سباحة فندق لوجود أسلاك كهرباء مكشوفة في الماء!.. أو أن طفلا يصعق في نادٍ شهير للمسه أعمدة الإنارة، أو أن حريقا ينشب في مسرح وقد أغلقت أبوابه عليه واختفى الحارس بالمفاتيح فاحترق كل من به من مشاهدين وفنانين!

أو أن قطارًا ينشب فيه حريقٌ من براد شاي كان لا يجب أن يكون فيموت كل ركابه!.. أو أن قطارين يضل أحدهما الطريق فيصطدمان، أو أن عبارة كعبارة السلام قد أهملت صيانتها فغرقت ومن عليها!.. أو أن مريضة تموت بسبب الإهمال الطبي، فتحقن بالفورمالين الذي وضع في الزجاجة الخاصة بالصبغة المستخدمة في الأشعة!

كل هذا لا يحدث إلا في مصر، ويتكرر كل يوم ولا ينتهي، فحياتنا رخيصة لا تهم ولا نحن شخصيا، فالإهمال سمة شعب، كلٌ شريكٌ بإهماله من موقعه بعدم اكتراثه أو جديته بما يتناسب وخطورة التبعات التي ليست هي دائما محط الاهتمام، إن كنا نحن نقبل أو لا نعبأ أن نقابل الموت في كل لحظة تمر علينا ولا نأمن لحياتنا وحالنا على أرض بلادنا، فلن نستطيع إجبار أحدٍ على أن يقبل بشروطنا، علينا أن نصلح من أنفسنا وإلا سيعتزلنا العالم ولنعش في جزيرة منفردين إن استطعنا ولننعم بما اخترنا من تواكل!

من غير المقبول أن يأتي السائحون إلى مصر كي يقتلوا في صحارينا وهم يستريحون!.. وأن تترك مطاراتنا تخترقها يد الإرهاب ثم نعود ونلقي اللوم على من يحمي نفسه!.. فإرهابنا وإهمالنا لا يلزمان أحدا لنحتفظ بهما لأنفسنا "فيا نحلة لا تقرصيني ولا أريد منك عسلا!". 

ولعمري لقد انقضى وقت الشعارات والمجاملات وتزيين الحديث، هو وقت المصارحة فطوبى لمن أهدى إلىَّ عيوبي وها هو الغرب يهديناها؛ إذ يعتزلنا وما نعبد من الإهمال والتواكل وسوء الإدارة، إما أن نأخذ هذا مأخذ الجد فنغير أو لننزوي في نهاية العالم ليس لنا من نصير، ولن يكون اعتزال العالم لنا هو الضرر الوحيد ولكن ما يصيبنا من إهمالنا وتواكلنا سيكون أفدح، وسنخسر أنفسنا وأولادنا وليس العالم فقط، نحن كشعب في حاجة إلى وقفة مع النفس ومع الضمير قبل أن نعيش في محميةٍ طبيعية يكتب عليها حفرية أثرية يحظر دخولها أو التعامل معها إلى أبد الآبدين.

ولماذا؟ ونحن قادرون على الإجادة والإبداع لا ينقصنا شيء إلا أن نحسن الإدارة، فحين نعمل في ظل أي حكومة من حكومات الدنيا نكون فخرا لبلادنا وشعوبنا إلا في مصر التي آمنا فيها العقاب، ولذلك آن الأوان أن نستبدل جهازنا الإداري المتراخي بآخر حازم حاسم أو بمعنى آخر، بآخر بمواصفات عالمية، فالإدارة والجودة عِلمان جديران بالاحترام، وما من سبيلٍ أمامنا إلا باحترامهما وما من سبيل أمامنا في ظل إداراتنا التقليدية الحصينة البالية البليدة المتراخية!

سيادة الرئيس انسف إداراتنا القديمة وآتِ بمن يليق بأدائك ويتناسب معه، وأقسم أنهم أمامك وموجودون تحت سماء مصر.
الجريدة الرسمية