رئيس التحرير
عصام كامل

صفر الكل!


آفة مجتمعنا عدم الموضوعية، نكره الأفكار ونرفضها مع الأشخاص، فلا يقتصر تشويهنا للتاريخ على تشويه الرموز وطمس إنجازاتهم، فمع تشويه الرموز نشوه المبدأ والفكرة، تارة بعمد وتارة بغير عمد، فأسأنا إلى كل فكر، كل فلسفة، وكل نظرية سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو كلهم معا، لا نفرق بين ما فيها من جيد أو رديء، فالأمر عندنا إما أبيض برمته بممثليه أو أسود برمته وبممثليه.


لكل فكر وفكرة مزايا وعيوب، فلا فكرة سيئة على طول الخط ولا فكرة حسنة على طول الخط، تُطرح الفكرة وتدخل حيز التجربة، وحين يُكتشف خطؤها إما تطرح جانبا وتستبعد، ويلجأ الناس لتجريب عكسها، أو يدخل عليها التغيير يضيفون إليها وينتزعون منها ويحدثونها بما يلائم الاحتياجات والتطور، وهكذا تستمر البشرية في خوض التجارب، يستبعد منها ما يستبعد ويستمر ما يثبت صحته من بينها، وتحدث في الغالب عملية انتقاء للأنسب من كل تجربة ويتم الدمج بينهم جميعا وصولا للأمثل والأصلح.

ولأنه كان هدف البشرية دائما الإصلاح الجدي لما فيه الصالح العام، فمثلا لم يكن من الممكن أن يظل الحكم ملكيا مكياڤيليا أبديا لصالح الأمير دون الرعية؛ لأنه إن حرص على ثبات وقوة الدولة، وهذا وحده هدف، فيه قهر الرعية، فكان لا بد من وضع الماجنا كارتا، ولم يكن من الممكن أن يظل الماجنا كارتا عقدا بين الملك والنبلاء، كان لا بد من أن يصل إلى ما وصل إليه ڤولتير في العقد الاجتماعي، ولم يكن من الممكن أن تظل هيمنة الكنيسة بكهنوتها تجاهر العلم العداء، وتقيم محاكم التفتيش، تستغل الناس وتبيع لهم صكوك الغفران لجمع المال، تتحالف مع الملوك تارة وتناصبهم العداء تارة أخرى، ويظل المال دولة بينهم، ويظل النبلاء نبلاء والفقراء مستغلين مطحونين مهضومي الحق، وتستمر الرأسمالية في التوحش، ويظل اقتصاد أدام سميث حرا طليقا ومتسيدا الموقف بلا منازع، وتخضع المجتمعات لسيطرة رأس المال، وتلقى البروليتاريا من الرأسمالية ما تلقاه من تجبر واستغلال وتسريح في ظل الميكنة.

ولكن لأن لكل فعل رد فعل كان بقاء الحال من المحال، وظهر المبالغون في استدعاء الفوضى واللاسلطوية والأناركية والاستعداء على الرأسمالية والملكية، ويأتي "چوزيف پرودون" فيدين كل الملكيات قائلا "الملكية سرقة La propriété c'est le vol!"، وينحرف انحرافا شديدا نحو اليسار حتى يبدو كارل ماركس نفسه، العدو الأول للرأسمالية، أكثر اعتدالا منه ويرفض هذه المزاعم!

ولو دققت، ستجد في بعض ما قال ماركس "رائد الفكر الشيوعي" شيئا من العدالة، فلن تُلقي بأفكاره جميعها في سلة المهملات، وستجد حتى في مقولة "الدين أفيون الشعوب" بعضا من حكمة، إذا نظرت لها على أنها تقصد تحديدا استغلال الدين للترسيخ للتكاسل والقبول بالظلم وقهر الإرادة والتمكين من تسلط الكنيسة واستغلالها للناس برضى منهم، على أساس أنها إرادة الله، فيكون هدفه من تلك المقولة التمرد وعدم قبول الظلم وتحرر الإرادة وانطلاقها دون كبت الكهنوت الكنسي، ثم تظهر أصوات أكثر اعتدالا، مثل إميل أوليڤيه الذي طالب ناپوليون الثالث بتفعيل دور الدولة لحماية أبنائها، رافعا شعار "الدولة الحارسة l'État providence"؛ حتى نصل إلى چون كينز الذي يتوسط فكره كل من سبقوا.

انتهت الأنظمة العالمية بعد تجارب عدة إلى أن الديمقراطية هي سر التقدم، ونحيت الملوك جانبا مع الاحتفاظ بالملك يملك ولا يحكم، وأصبحت النظم بين بين.. انحسرت الشيوعية وراجعت الدول الاشتراكية اشتراكيتها كما لم تعد الرأسمالية مطلقة، وأصبحت الدولة حارسة في كل الأحوال، تتدخل حين يجب التدخل حتى في أعتى الدول الرأسمالية.

ويتصالح ماكس ڤيبور مع الدين ويضع الضوابط في "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، ويصبح مرجعا في أصول الحداثة، ويضع أسس التنظيم البيروقراطي المنظم.

باختصار هكذا، يتم الدمج والتصالح بين النظم والأفكار وتبقى جميع الأفكار في تعايش وتضامن وتكافل، يبقى اليمين ويبقى المحافظون ويبقى اليسار والليبراليون المجددون، يقوم بعضها البعض كلما أخطأوا ويتداولون الكرة.

أما نحن فلا نستفيد من تجاربنا ولا تجارب العالم المتقدم فيما وصل إليه بل نقضي عليها جميعا، فنحن مازلنا على عهدنا مع أنفسنا نكره ونحب، نتخبط حسب هوانا لا حسب الموضوعية والمنطق اللذين يؤديان بنا إلى النظم المثلى وصولا إلى الصالح العام!

ولكن هكذا دأبنا نحن الشعوب العربية منذ بدء الخليقة وليس أمرا مستحدثا، نرفض العلم جزافا وكذا كل ما ثبت نجاحه على مر السنين عن طريق التجربة العملية المنظمة، لا نقبل به فلا موضوعية في أحكامنا، كرهنا اليمين وانقلبنا عليه كراهة للرأسمالية الظالمة، وشوهنا اليسار دون فكر كرها لأخطاء التجربة الناصرية، التي قُوِضَت ولم تكتمل برحيل ناصر، دون محاسنها، ثم عدنا لليمين في أبشع صور السوق الحرة والخصخصة!

ثم انقلبنا عليه كرها في عهد مبارك لارتباطه بالفساد!، وحكمنا على التجربتين بالفشل دون أدنى درس!، وانبرينا نمحو تاريخنا محوًا ونشوه رموزنا تشويها ونكرههم وفكرهم كراهة التحريم لم نبق منها على أمل، حتى تركنا الساحة مرتعا لتجارة الدين؛ لأن الحل أصبح فيما هو أسمى من العلم والحضارة وتجاربهما العملية وكل دعاتهم، نبذناهم بأفكارهم كلها من يسارها ليمينها دون واقعة درس مستفادة لأسباب بعيدة كل البعد عن الموضوعية.

ووصل وكلاء الدين لشعار "الإسلام هو الحل" وعادوا بنا نبحث في أربعة عشر قرنا سبقت!.. لا حضارات، لا علم، لا حداثة ولا تخصص، وكأن لم تتغير الحياة عبر كل هذه السنين قيد أنملة، وكأن الدنيا لم تنقلب من حولنا رأسا على عقب في ثورة من التقدم والازدهار، ومن أنتم؟

أنتم بشر مثلنا لستم وكلاء الدين الوحيدين وليس الدين حكرا على أحد!، ثم إنه من الظلم للدين أن تقول إنك تصل به إلى كل شيء وأي شيء؛ لأنه ليس من المفروض أن يصل بنا الدين لكل شيء وأي شيء، إلا الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فالكتاب كتاب دين وليس كتاب علم من علوم السياسة أو الاقتصاد أو الطب أو الهندسة والكيمياء أو الفيزياء أو الفلك أو الرياضيات أو أو أو... إلى آخره، ولكن!

يريد المدعون تغيير وجه الحقيقة؛ تمكينا لأنفسهم! الكتاب ثابت يرسي المبادئ والقيم ويرسخ مبدأ التوحيد والعبادة لله وحده، ويذلل الطريق لها، يعلم مكارم الأخلاق من الفضائل التي لا خلاف عليها، معنى عظيم وكتابٌ قيم لا غنى عنه في كل زمان ومكان، أما العلم فمتغير حسب الزمان والعصر، فكل يوم هو في شأن.

يجب أن نعترف بأن علم السابقين كان تعاملا مع واقعهم، وكما شاء لهم زمانهم، وعلى مراد دنياهم التي عاشوها، وعلى قدر مبلغهم من العلم، ومن ثم جاءت تفسيراتهم وتأويلاتهم للأحداث.

وأكد أننا إذا ما نبذنا العلم الحديث بأفكاره المتباينة ستعود الساحة مرتعا خصبا للتطرف، وأنه سيعود بهم الفكر إلى أربعة عشر قرنا مضت كما عاد وسيعودون يسترجعون مآسي الفتنة الكبرى وما أصاب الصحابة من الفرقة والعداوة والبغضاء!

ألم يقتل عثمانٌ وعليٌ؟، وابناه أحلوا دماءهم وقتلوهم؟، وهل انتهى عندهم التاريخ أو توقف؟، حتى أصبح ملحمة شعرية في سفك الدماء؟، وبدلا من أن يخَطِّؤونه تركوه ليكون شرعة ومنهاجا وسنة حسنة يستنها التابعون ويعود جوهر الدين ويرتبط بالتكفير والإرهاب والقتل على أهون الأسباب حتى اختلاف الرأي!

لماذا نرضى لدين السلام والرحمة بأن يأخذ سنة سفك الدماء؟!.. لماذا نرث ونورث كل شر فعله الغابرون، لا ننقي ولا نبرر؟!

لقد اعتذر كل العالم عن جرائم التاريخ، لماذا نبقي نحن على فكر سفك الدماء نسطره لنستحضره فيكون "تحت الطلب"؟!.. وتكون النتيجة كفران الناس بكم!.. يقولون أيأمركم الإله بالقتل؟!.. أيعذبكم الإله على الفكر وهو من فطرنا على فطرة التفكير ما لنا منها ومنه بد؟!.. أي رعب هذا؟!!.. كلاهما خطر التطرف والكفر، وكلا الخطرين أعظم.. ولماذا؟؟

لأن كل الأفكار منبوذة، لا اعتدال ولا وسطية، لا جديد ولا قديم، ولا علم ولا خير فيه كله، ولا سلام.. ترى هل تظل هكذا سنتنا لا نصل إلى عقد اجتماعي توافقي وسطي أبدا، يفيد من كل التجارب ويقبل جميعها في تعايش وتطويع حتى يملأ الفراغ الذي نعيش فيه، فلا تكون نهايتنا الحتمية الدائمة وهي اللجوء إلى الفكر المتطرف ونعيد كرة الفراغ من جديد؟!! 

ونظل هكذا صفر الكل!
الجريدة الرسمية