رئيس التحرير
عصام كامل

المسلمون والعلمانية


حرص الإسلام على رد المظالم والحقوق لأصحابها كشرط للتوبة، وشرع العقوبات الدنيوية والقصاص لمن يرتكب في حق الغير من جرائم تضر بمصالح الناس؛ لأن الحقوق والواجبات في معاملات الناس بينة لا لبس فيها.. الدين يتعامل مع الأمور الدنيوية بموضوعية وواقعية، دون قداسة لأحد ولا لكلامه ولا لفعله، لا كرامات ولا حصانة ولا لبنت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه.


والحاكم (ممثلا للدولة) هو الذي يتولى الإدارة والتطبيق فقط لا أحد غيره، وهذا الحاكم يختاره الناس بالطريقة التي يرتضونها؛ لأن أمرهم شورى وليس رجل دين، فلا كهنوت من الأساس ولا رجال دين ولا سلطان لحملة الدين، ويُجري المحاكمات قضاة عدول، ويستلزم ذلك شهودا أو بالتلبس أو الاعتراف، ولا يؤخذ أحد بالشبهات "فالحدود تدرأ بالشبهات" فلا مجال ولا مكان للفوضى.

أما أمور العبادة، فكلٌ لدينه وتقواه لنفسه، فصلاته وصيامه وعباداته ونواياه لا سلطان لأحد عليه فيها، ولم يفرض الله تعالى في كتابه العزيز من عقوبات على ترك عبادة من العبادات ولا على النوايا، فليس في ديننا محاكم تفتيش.

يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم"، وفي هذا سبق للعالم المتقدم بسنين في الفصل بين أمور العبادة التي هي لله وحده ولا حدود عليها وهو الذي يجزى بها، وبين شئون الدنيا المتعلقة بمصالح البشر وكل ما استوجب العقوبة أو الحد، دين جعل أمور الدنيا للناس في عبارة مفتوحة (أنتم أعلم بشئون دنياكم)، وهذا في نظري أقرب ما يكون للعَلمنة، الذي جعل عمر بن الخطاب يوقف حدا ويحتسب طلقة واحدة بثلاث، حين أحس سوء استخدام الرخص؛ تأديبا للناس، الذي جعله يغير حد السكر، وكان مستوحىً من حد البلاغ الكاذب في رمي المحصنات، ويبطل نفس الحد لفساد الدليل (التجسس)، لدليل على أنه رجل دولة يحكم بعقل ومنطق الاجتهاد، ولا أحد يجيبني بأن "هذا لأنه عمر"، فكلهم صحابة وكلهم ثلة الأولين أحباء النبي وصحابته، وإنما اختاروا عمر وليس أحدا غيره؛ لأنه رجل حكم ودولة، ولذلك كان هو "عمر".. عمر الذي حدد إقامة الصحابة في المدينة بقرار سياسي دنيوي لم يفرضه القرآن، في فصلٍ تام للدين ورجاله عن السياسة وأمور الدنيا؛ مخافة أن يفتتن بهم الناس فيختلط ما هو ديني وما هو دنيوي، فتفسد التجارة ويفسد القضاء ويفسد الحكم.

لا أبالغ حين أقول إن كان لرسالة الإسلام وحاملها ومن خلفوه بعده الريادة في فصل ما هو دنيوي عما هو ديني في مثال رائع للعلمنة، ولولا أنهم هؤلاء الرجال الأول صحابة رسول الله فصلوا الدين عن الدولة، ما اقتتل المسلمون وما قتل عثمان بيد مسلمين؛ لتخطئتهم إياه، مهما اختلفنا مع ذلك وما اقتتل علي ومعاوية أيضا مهما اختلفنا مع ذلك!

الدين الذي يقول "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد" كما قال تعالى "قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور"، في نظري يعين العلمانية في أحكامنا، وهو الفصل بين ما هو دنيوي والحكم فيه للعباد، وما هو أزلي والحكم فيه لرب العباد وحده لا يشاركه في ذلك أحد، وإن لم يكن ذلك هو "العلمانية" التي تحمي الأديان كلها على حد السواء، ويجعل مرجعها لله وحده يحكم فيها كيف يشاء، فماذا يكون إذًا؟

الرسول الذي يتزوج وينجب من امرأة ليست على دينه، تاركا لها كل الحق في الاعتقاد والعبادة، ويكون حبه وسنده وراعيه وحاميه أبا طالب، الرجل الذي مات على كفره، الرسول الذي يقول "كل بني آدم سيد" وسيد يعني حر، وعلى هذا الأساس أجمع الفقهاء على القاعدة بأن "كل إنسان مؤتمن على دينه".

الرسول الذي يعقد صلحا مع الكفار ومعاهدة مع اليهود، يعاملهم ويشتري منهم ويبيعهم، يقترض منهم ويقرضهم، يمرض فيختار أن يعالجه الطبيب اليهودي بدلا من المسلم؛ لأنه الأطب، ويختار هو وصاحبه دليلا كافرا في هجرتهما؛ لأنه الأعلم بالطريق، الرسول الذي حين سُئل يوم بدر "أهو الوحي أم الرأي والمشورة" قال "بل الرأي والمشورة"، ونزل على رأي أصحابه، الذي نزل على رأي سلمان؛ لسابق خبرته يوم الخندق، من يفعل هذا لهو رسول يطبق العلمانية أم ماذا يكون؟

ويهزم المسلمون وفيهم رسول الله واقفا بينهم يحارب بسيفه لما أخطأوا في أُحُد، في رسالة مفادها "في الحياة الدنيا الجزاء على قدر العمل لا على قدر الصلاح، إن أجدتم نجحتم وإن قصرتم أخفقتم، فدنيا الواقع لا تفاضل بين الناس حسب دينهم، وإنما التفاضل بينهم مرجعه اجتهادهم في رسالة ودرس في منتهى العلمانية، أراد المولى أن يصل لعباده، أم ماذا نسمي هذا؟

ثم إن الدين الذي يتشارك فيه كفار مكة والمسلمون الحرب على الروم والفرس على أساسٍ من المواطنة، ليؤكد أن الدين لله وحده وإنما الوطن والدنيا للجميع، ليس إلا معنى مجسد للعلمانية، وعلى العكس من هذا نجد عليًا يقاتل الخوارج وهم المسلمون وهم الأعبد لله والأحفظ للقرآن؛ لأنهم خانوا الدولة، وكذا ما أسميناه بـ"حروب الردة" وهي حروب الزكاة، قاتلهم أبو بكر لأنهم منعوها في هدمٍ وخروجٍ على الدولة، لم يقر ذلك عمر في البداية ثم عاد وأذعن لرأي الحاكم، ما يدلني على أن حربهم لم تكن لرأيٍ فقهيٍّ، وإنما كانت رأيا سياسيا وإلا لما اختلفوا.

النبي الذي يغير رأيه وينزل على ما اعتاده الفرس والروم، حين ثبت له بالتجربة العملية صحته دفعًا بالعلم كل خرافة أو آفة، ويعترف دونما حياء أو كبر أو عنت أنه أخطأ وأصاب "الكافرون"، قائلا "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئًا"، والغيلة هي إتيان المرأة في حملها، فلست أشك أبدا في أن ديننا دين علماني (من العِلم) بامتياز، أحب العلم ورغب فيه وحث عليه؛ لأنه دين تام لا يخشى العلم ولا ينبغي له، ولِمَ يناصب العلم العداء؟

وكم يطيب لي ذكر حديث رسول الله عليه أفضل الصلوات، وهو يحثنا على طلب العلم "اطلبوا العلم ولو في الصين" - حتى إن كان حديثا ضعيفا - وهذا الأمر ليس فقط كناية عن البعد، فكم من معنى تحمله كلمة "الصين" بالتحديد؛ لأني لا أظن أبدا أن العلم الذي أمرنا الرسول الكريم بطلبه في الصين هو علم الدين.. ولكننا الآن نجد رجالًا ينسبون أنفسهم للدين، يفتون في العلم، يحرمون هذا ويحلون هذا بفتاوى في أشياء ليس لهم بها علم!

وعلى الرغم من الأمثلة الحافلة، تنافس المتنافسون منذ مئات السنين ليصنعوا لهذا الدين الذي لا يعرف كهنوتا أو كهنة، يفتون في كل العلوم حتى الطب والكيمياء والفيزياء بما لم ينزل الله، ويفتشون في الضمائر والنوايا، ويكفرون الناس ويصطنعون تهما ما أنزل الله بها من سلطان، فيحلون الدماء ويزكون أنفسهم على الله، يبغون عرض الحياة الدنيا هم والحكام الذين رعوا وجودهم على مر التاريخ، يرسخون لهم ملكهم على حساب سمعة الإسلام.

وأخيرا يا أيها المسلمون، أرجوكم أرجوكم اطلبوا العلم كل العلم علوم الحياة والدنيا ولو من الصينيين أو من الغربيين أو من أي من العالمين، طالما كانوا أولي علم.
الجريدة الرسمية