رئيس التحرير
عصام كامل

تعديل الدستور.. الفتنة تطل برأسها


الدستور كما تعرفه الدولة الحديثة هو أرقي وثيقة بشرية، ورغم أنها وثيقة غير مقدسة بمعنى أنها قابلة للتعديل إلا أن تغيير أحد موادها يحاط بضمانات قاسية تمنع التلاعب به وفق هوى السلطة وخدم بلاطها من المنافقين، فالدساتير ليست ثيابا نرتديها للتزين بها متى شئنا، ونخلعها عند منعطف الطريق في غفلة من الشعب، ولأن الدستور عقد اجتماعي يبين الحقوق والواجبات ويحدد الصلاحيات التي يمنحها الشعب لكل سلطة من سلطات الدولة فإن غلبية شعوب المعمورة تحترم دساتيرها دون إفراط أو تفريط، وقد ترفض تعديل أحد مواد الدستور لعشرات السنين حرصا على الاستقرار والبناء ووأدا للفتنة، فالدستور يعمل على تنظيم وضبط العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويرسم آليات التعاون بينها بما يضمن عدم تغول إحدي السلطات-خاصة السلطة التنفيذية- على إحدى السلطتين القضائية والتشريعية، وتوضح مواد الدستور والمواد المكملة له التوجهات الرئيسية والعامة للدولة ليهتدي بها نظام الحكم أثناء فترة حكمه المحددة وفق نظام حكم متوازن إما رئاسي أو برلماني أو مختلط يجمع بينهما.


وقد مر الشعب المصري بتجارب مريرة سواء في وضع الدساتير أو تعديل مواده لتعزيز التسلط لصالح سلطة الخديو أو الملك في النظام الملكي أو الرئيس في النظام الجمهوري على مر التاريخ منذ أن عرفت مصر الحياة النيابية قبل الثورة وبعدها، لقد عرفت مصر الدستور الأول لها بعد مخاض طويل استمر بداية من عام 1805 حتى اليوم، حيث صدرت لائحة مجلس الشورى في عهد الخديو إسماعيل عام 1866 تحت الضغط الشعبي، ثم ظهرت بوادر دستور جديد في عام 1879 الذي لم يمكث سوى ثلاث سنوات أعقبه دستور 1882 الأفضل نسبيا حتى ألغاه الاحتلال.

وظلت مصر بلا دستور حتى صدر دستور 1923 نتيجة لثورة 1919 وقد تضمن قيودا نسبية على سلطات الخديو ثم تلاحقت انتهاكات الملك وأحزاب الأقلية لدستور 1923 وانتهي به الأمر إلى إلغاء الدستور وحل البرلمان، وإعلان دستور 1930 المعروف بدستور صدقي باشا بديلا له، ورفضت القوى السياسية الكبرى آنذاك الاعتراف بدستور صدقي حتى عاد دستور 1923 للعمل بفضل الاحتجاجات السياسية.

ومرت مصر بحقبة الدساتير الجمهورية في عام 1956، 1958، ثم دستور 1964 المؤقت ثم وضع دستور 1971 في بداية حكم السادات الذي انقلب عليه وعدل أهم مواده ليضمن الترشح لمدد أخرى بدلا من مدتين بإيعاز من لجنة الهوانم في عام 1980 ليكون فألا سيئا على الرئيس محمد أنور السادات الذي اغتالته أيد شريرة لتقع ثمرة التعديلات الدستورية في أحضان حسني مبارك ليستمتع الرجل بحكم خارج أسوار القانون والدستور 30 عاما عدل خلالها دستور 71 مرتين إحداهما عام 2005، والثانية عام 2007 ليحكم قبضته على سلطات الدولة الثلاث ويعد البلاد للتوريث.

وكان مصير مبارك المحتوم في أعقاب التعديلات خلعه بثورة شعبية في 25 يناير 2011، ثم جاء محمد مرسي بانتخابات نزيهة ليحكم مكتب الإرشاد البلاد بدستور 2012 والذي انقلب عليه الرئيس بإعلان دستوري محصن في نوفمبر 2012 ليكون اللعب بمواد الدستور نهاية حكم جماعة لم تعرف قدر الشعب ولم تحترم إرادته ولا تعهداتها مع الشعب. وبعد ثورة 30 يونيو ضد حكم الجماعة عدلت معظم مواد دستور 2012 واستفتي عليه الشعب ومنحه ثقته بنسبة تجاوزت 98،1% وخرج له أكثر من 38،6 مليون ناخب، واختار الشعب الرئيس عبد الفتاح السيسي بناء على هذا الدستور بشحمه ولحمه ومواده.

بل وأقسم الرئيس على احترامه أمام الشعب وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، فكيف يطالب دعاة الفتنة اليوم بتعديل الوثيقة الدستورية قبل تفعيلها؟ هل لأن الرئيس قال إن الدستور وضع بحسن نية والدول لا تبني بحسن النية؟ وما أدراكم أن الرئيس يقصد ما ذهبتم إليه، قليل من العقل والصبر يا سادة.

الرئيس أذكي من أن يطالب بتعديل الدستور قبل تفعيل مواده، وهل يمكن أن توضع الدساتير بسوء نية ؟ من المؤكد لا، لأن الدساتير توضع للحاضر والمستقبل فلابد من توافر حسن النية واستشراف مبشرات الأمل في التغيير والبناء، ومن المستحيل أن يقوم أي دستور على سوء النية إلا عند دعاة الفتنة وأعداء الاستقرار.

ومن العجيب أن مجاذيب التعديل وحملة مباخر النفاق الذين يستهدفون موادا بعينها لتكريس وإعادة تأسيس حكم الفرد مازلوا يعيشون في الماضي وهو زمن لن يعود شئنا أم أبينا فهذه حكمة التاريخ، فهؤلاء الذين فقدوا حواسهم الخمس لا يدكون إننا في عصر المعلومات والسماوات المفتوحة عصر المعرفة المتجددة، وقد فاتهم أن أصوات مزامير فتنة الدستور فأل سيئ على استقرار مقام الرئاسة فيما سبق فهل يستدعي هؤلاء فألهم السيئ بقصد أو بدون قصد اليوم؟

إن الجهة الوحيدة المنوطة بإجراء أي تعديل الدستور هي السلطة التشريعية (مجلس النواب) ما زالت قيد التشكيل، وأن تقييم الدساتير وموادها لا يقوم على الانطباعات والافتراضات والرجم بالغيب، بل يقوم على تفعيل مواد الدستور في الواقع الاجتماعي والسياسي وسن القوانين المكملة له قبل كل شيء، فهلا فعلنا ذلك أولا !

إن على دعاة ودهاقنة تعديل بعض مواد الدستور أن يعلموا أن المواد التي تتطلب التعديل ليست تلك المواد فحسب، بل يحتاج الدستور إلى تعديل مواد أخرى اعترض عليها البعض فاصبروا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وتكشف لنا التجربة ما كنا نجهل، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
darrag11@yahoo.com
الجريدة الرسمية