رئيس التحرير
عصام كامل

المجند «أحمد إدريس».. مفتاح النصر الذي تجاهلته الدولة

حرب أكتوبر - صورة
حرب أكتوبر - صورة ارشيفية

بملامح سمراء تعكس طيبة أبناء الجنوب وتفانيهم في عشق وطنهم، جاء «أحمد إدريس» في عام 1954 من قرية توماس وعافية النوبية بمدينة إسنا جنوبي محافظة قنا – آنذاك - ليتطوع في سلاح حرس الحدود، ويصبح فيما بعد واحدًا من الذين لعبوا دورًا مهمًا في حرب السادس من أكتوبر، إن لم يكن صاحب أهم دور والسبب الرئيسي في تحقيق النصر على الإطلاق.


فقد نجحت إستراتيجية الجيش الإسرائيلي أثناء فترة احتلاله لـ«سيناء»، وبالتحديد من عام 1967 وحتى 1971، في توجيه الضربات الاستباقية للجيش المصري، وذلك بعد تمكنهم من فك شفرات الخطط والتحركات لجيشنا ومن ثم تكبيده خسائر فادحة.

كان السبق دومًا في تلك الفترة لجيش الاحتلال؛ نظرًا لقدرته على التقاط الإشارة التي يتراسل بها الجيش المصري، ومن ثم أصبح جنودنا وما يملكونه من معدات صيدًا سهلًا للصهاينة، ولم يكن هناك أمل في تحقيق النصر في الحرب مع الكيان الصهيوني التي كانت كل المؤشرات تنذر بقرب اندلاعها، وأنها قادمة لا محالة سوى بالتغلب على هذا الأمر، والنجاح في الوصول إلى شفرة سرية يعجز قادة إسرائيل في التقاطها أو فكها إن حدث والتقطوها.

كان أمر «الشفرة السرية» يشغل القوات المسلحة المصرية بدءا من القائد العام ووصولًا لأصغر رتبة في ميدان المعركة، وفي عام 1971 حين تولى الرئيس أنور السادات مقاليد الحكم، أخذ على نفسه عهدًا وقادة القوات المسلحة أنهم لن يسلموا الراية للأجيال التي تليهم ملطخة بعار الاحتلال.. الجميع وضع نصب عينيه تطهير تراب سيناء الغالية من دنس الصهاينة، ولكن كيف يتحقق هذا والجيش المصري يشبه الجسد الذي عري عنوة من الثياب وترك للأنظار تخرقه متى وأنى شاءت؟

ومن أجل التغلب على هذا الأمر، اجتمع الرئيس أنور السادات بقادة الجيش ووجههم بضرورة إيجاد «شفرة» يعجز الصهاينة عن حلها.. الجميع أعلن الاستنفار لتلبية مطلب الرئيس، وكان من ضمن القادة اللواء تحسين شلا، رئيس أركان القوات المسلحة في تلك الفترة، الذي صادف حديثه حول هذا الأمر مع قائد لواء سلاح المدرعات عادل سوكة، تواجد المجند أحمد إدريس، الذي ما إن سمع الحديث ورأى الحيرة البادية على ملامح القائدين حتى بادرهما بالقول: «الأمر بسيط يا فندم، نخلي اللغة النوبية هي الشفرة السرية للجيش، فهي لغة تنطق وتسمع ولا تقرأ؛ نظرًا لخلوها من الحروف الأبجدية، ولا يستطيع أحد فهمها سوى أبناء النوبة القديمة».

كان الاقتراح كسفينة لاح ضوؤها لينقذ أناسا كادت أمواج البحر العاتية أن تبتلعهم.. وعلى الفور أبلغ رئيس الأركان القائد العام للقوات المسلحة بفكرة المجند أحمد إدريس، والثاني بدوره طلب رؤية الأخير، وحين اقتنع بالفكرة أبلغها للرئيس السادات، الذي طلب أن يلتقي بـ«إدريس» في أسرع وقت.

ويحكي أحمد إدريس عن لقائه بالرئيس السادات، قائلًا: «انتظرت السادات في مكتبه، وعندما سمح لي بمقابلته كنت أرتجف؛ لأنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها رئيسًا، وحين شعر الرئيس بما ينتابني من خوف ربت على كتفي ثم دار حديث طويل بيننا، وحين اقتنع تمامًا بالفكرة، قال لي: اوعى تحكي لحد على الموضوع ده، حتى أقرب الناس ليك، وإلا حيكون مصيرك الإعدام، فقلت له: اطمن يا فندم ما فيش مخلوق حيعرف الموضوع ده بس لو سيادتك عايز تستعين بأفراد نوبيين عشان يرسلوا ويستقبلوا الرسائل استعين بأبناء النوبة القديمة وليس النوبيين المهجرين في عام 1964؛ لأنهم لا يجيدون اللغة، وستجد الكثير منهم في سلاح حرس الحدود، فابتسم "السادات" وقال لي: كلامك صح وأنا أعرفهم من أيام ما كنت قائد إشارة بقوات حرس الحدود، وفي نهاية مقابلتي للرئيس السادات أعطاني مكافأة قدرها 100 جنيه وضعتها في جيبي ومشيت من المكان».

وبالفعل بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة في تنفيذ الفكرة، واستدعت 172 نوبيا يتحدثون بلهجة الكنوز، و172 آخرين يتحدثون بلهجة الفاديكا – وهما لهجتا اللغة النوبية - وتم تدريبهم على استخدام أجهزة الإرسال، ثم توزيعهم على كل وحدات الجيش، ليبدأوا في مهمة إرسال واستقبال الرسائل بين القوات المصرية المتواجدة خلف خطوط جيش الاحتلال، وفي الكتائب والسكنات العسكرية، لتبدأ على الجانب الآخر خطة التضليل والخداع، التي كانت رسائلها تبث باللغة العربية، وهو الطعم الذي ابتلعه الصهاينة وظنوا من خلاله أن المصريين لا ينوون دخول حرب معهم.

وكان دور «أحمد إدريس» خلال هذه الخطة أكثر خطورة، فقد تم اختياره مع مجموعة منتقاة من المتدربين؛ لرصد تجمعات والقوة الفعلية لتسليح قوات العدو المرابضة على ضفة القناة، ويصف «إدريس» شعوره ومن معه خلال تلك اللحظات قائلًا: «تم تدريبنا على جهاز صغير، وعدينا القناة باستخدام الكاوتش المطاط؛ لأنه لا يصدر أي صوت في الماء، وكنا في كل لحظة بنموت من الرعب، وكان جيش الاحتلال بيترك ضفاف القناة في ساعات الليل وبيتراجع لمسافة 5 كيلو مترات، وبيطوقوا المكان بالدبابات، وكنا بنرصد تحركاتهم في ظلام الليل ونبلغها للقيادة، وكنا بنقول على الدبابة «أولوم» ومعناها بالنوبي تمساح، وعلى العربات المجنزرة «إسلانجي» ومعناها ثعبان، وبالنهار كنا بختفي داخل صهاريج مياه بعيدة عن منطقة تمركز العدو، وكنا بننام إحنا وواقفين داخل هذه الصهاريج، واستمرينا في هذا الوضع من عام 1971 وحتى يوم السادس من أكتوبر 1973، وكانت الوردية بتستمر من 7 إلى 8 أيام، ثم نعود إلى مركز القيادة لنحصل على إجازة قصيرة، ثم نعود مرة أخرى لإكمال مهمتنا.

نجحت خطة الخداع واستطاعت قواتنا المسلحة تحقيق النصر وتطهير أرض سيناء من العدو الصهيوني، بعد أن لعب المجند أحمد إدريس، أهم دور في تحقيق هذا النصر، بإهدائه فكرة الشفرة السرية للقيادة العامة، فبماذا كوفئ «إدريس» على دوره غير المسبوق؟

مائة جنيه منحها له السادات أثناء مقابلته له، ثم وجهت له القيادة العامة للقوات المسلحة بطريقة سرية، خطاب شكر، على دوره الفعال في حرب السادس من أكتوبر، ليرحل المجند أحمد إدريس، عن دنيانا دون أن يتم تكريمه بالشكل الذي يليق به، ولتبقى كلماته التي رددها في آخر حوار تليفزيوني أُجري معه، بعد أن حاول الإعلام رد الجميل له في سنوات عمره الأخيرة «لو كنت في دولة أجنبية كان زماني اتقدرت».
الجريدة الرسمية