رئيس التحرير
عصام كامل

استبدادية العبث


أمر شاق هو الكتابة الأسبوعية الثابتة، وتأتي المشقة من البحث عن قيمة تبث الأمل وتفك قيد الحرية عن الوطن وعقول أبنائه.

وما يزيد الأمر تعقيدا كم الترهلات التي اخترقت جدران أخلاقيات الضمير المصري بل العربي، فتتعقد آلية البحث وسط حالة التلاسن الدائمة بين من جعلوا أنفسهم صفوة المجتمعات.. فنسمع عن تلك التي تسخر العفاريت وتستغفل الوهم نفسه لتمرير ما تريد.. وهذا المنظر المتفذلك دون رؤية ولا وعي بحالة بلاده، وهذا المملوك الذي يمجد أسياده وجلادي أهله.. وهذه الجارية التي قدمت شرفها وسمعة وطنها للقيل والقال؛ من أجل وصولها لمنافذ لمعة الصفيح.. والأخطبوط والمتطفل، الاثنان سيان في أمر استغلال قوت الناس وجهلهم للحصول على أصواتهم.. والحاكم الأصم عن كل هؤلاء السخف.


كل هؤلاء كانوا سببا مباشرا في وكستنا القديمة، وفي نكستنا بالواقع المتكسر الذليل المهموم المعاش.. أجيال تسلم بعضها بعضا لانتكاسة الفعل والمفعول معًا، ليبقى الفاعل قويا دون اعوجاج في بنيانه وقصره وبساتينه وإكسسواراته ولمعة وجهه وثراء كرشه.

ومن أبسط قواعد اللغة العربية، أن يكون دائما وأبدا الفاعل مرفوعا.. وهو أمر استعجبه فقهاء السياسة في بلادنا لتجسيد الفاعل بشخص الحاكم، الذي طالما تقرر أنه مرفوع، حتى إن كان ظالما فاسدا.. وعلى العادة، فلكل قاعدة توابع، هكذا قرر فقهاء النفاق في كل عصورنا الإسلامية العربية، أن يدخل تحت حكم الرفع كل من اتصل أو رضى عنه الفاعل الأكبر، فرءوسهم أيضا مرفوعة على رعية الفاعل.. وكم فسلا رفع رأسه علينا في أزماننا الغبرة بأمر الحاكم الفاعل المرفوع!

ويشهد تاريخ المنطقة العربية بكل أسى على أقران الفاعل، كم أضاعونا، وكم أذلوا رقابنا باسم الله وباسم ولي الأمر.. كم من مرة زينوا وبنوا صرح الاستبداد للحاكم وربطوا بين النص الإلهي وبين قراراته، أن يبقى الحاكم أو يرحل فلا يهم لديهم، المهم بقاؤهم وتلونهم واستمرارية أقنعتهم.. والغريب أنهم يتناسلون، يتكاثرون مع عنة العامة وصمت الحكماء ودروشة الدهماء.

طالما تُرك لهم مسرح الرأي العام يرتعون فيه وحدهم.. يمررون فيه ما يُتلى عليهم ليل نهار سواء من القصر أو من خارج القصر أو من داخل نفوسهم المستعرة الخربة، فيتم بث رسائل معينة عبر أبواقهم؛ بغية الوصول لأهداف محددة، والمقصد منها في أغلب الأحوال التنويم الذهني للشعوب.

ما سبق ليس وليد اللحظة المجتمعية المتعثرة التي نعيشها في العالم العربي، بل هو ابن ضال لضلالة الاستبداد، كيف؟

مع استدامة العهد للحكم الاستبدادي وملازمته للموروث الديني سواء السماوي أو العرفي، ورضوخ الشخصية العربية الإسلامية للتفسيرات الخاطئة المراوغة للدين وتوظيفها سياسيا، مع تفاقم جبروت الخضوع لأولي الأمر في تغلغل الموروث الاستبدادي بداية من تراث خلفاء بني أمية والعباس، وصولا للتراث المملوكي والعثماني المستبد الأرعن.. فمن هنا تم ترسيخ قبول الاستبداد في نفس الشخصية العربية، بل التعايش والدفاع عنه أيضا، ليصل الأمر في تعقيده لقبول شعوب ذات حضارة ومجد مثل مصر والشام، حكم العبيد والإماء للأحرار!

وهذا أوصلنا بعصرنا الحديث للحنين لزمن الخلافة الوهمية، والعودة إلى مربع الصفر لما قبل خمس سنوات.. لنعود لنفس الوجوه الحاكمة مرة أخرى بأقنعة مختلفة والبركة في أقرانهم!
الجريدة الرسمية