رئيس التحرير
عصام كامل

ثعلب وسبع


مدح على ابن الجهم، المتوكل يومًا، بألفاظ خشنة:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قرع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوًا من كبار الدلا كثير الذنوب


المتوكل تيقّن من المقاصد الحسنة للشاعر، وعرف أنها طباع من يلازم البادية طويلا، فلما أراد إحداث تغييرات في بنية الشاعر، خصص له منزلا مطلا على دجلة، ووجه بمخالطته العقلاء والأدباء، وبعد ستة أشهر فقط قال ما لم يستطع أن يقوله أحد من بعده:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمرًا عَلى جَمرِ

ما الذي ينقص متوكل اليوم، في طول البلاد العربية وعرضها من تحويل هذا الخشن، المتطرف، اللامنتمي للوطن، إلى ابن جهم جديد، حداثي، يعيش في متن القرن الواحد والعشرين، يؤمن بقيم الإنسان وبمقولات تقبل الآخر؟

حكام اليوم، لا يختلفون كثيرًا عن حكام الأمس، لربما العلامة الفارقة بين الجيلين، أن الأوائل يتعاطون الحكم، وفي أذهانهم ملفات من الموروث السياسي، يسوسون الناس من خلاله، فقد كانوا، إلى حد بعيد يعتمدون على حدسهم في تقييم المواقف العسكرية والسياسية، إذ لم تكن متاحة أمامهم حينها، بيانات اجتماعية أو استطلاعات رأي، بمفهومها المعاصر.

أنا لا أقول، ولا أعتزم القول بالعودة إلى الخلف لتقليد أولئك، فمعطيات الحاضر، أكثر ثراءً بما لا يقاس مع المتاح أيام زمان، على أيامهم لم يكن هناك مناهج تنجز دراسات سوسيولوجية رصينة، ولا معاهد قياس رأي عام، تُمكِّن الجميع من معرفة اتجاه الريح، والتوجهات والمزاج أيضًا.

حقًا، وفي معظم الأحيان، لا أرى وجوبًا للتنظير وتوصيف المشاكل، وفي كل مرة أكتب فيها عن مشكلة، أقترح على نفسي إنجاز حلولها لأكتشف بعد قليل أن عملي في الإعلام يفرض على الإشارة إلى ما أراه خطأ، بغية توسيع دوائره، وطرحه على الناس كقضية يتعرفون عليها أولا، ويسهمون في حلها ثانيًا، إن طُلب منهم ذلك، وعادة لا تطلب منا حكوماتنا سوى دفع الفواتير لخدمات غير موجودة.

كثيرون من مواطني بلاد العرب أوطاني، يعيشون في بادية القرن الحالي، بعضهم يسكن الخيم، أو العشوائيات، أو المقابر، وثمة بينهم مئات آلاف "على"، ولا يحتاجون ليتخلوا عن تطرفهم سوى القليل من حكمة "المتوكل" ( حتى لا أقول الخليفة) ومن كَرَمِ يمينه، يريدون بيتًا صحيًا، حتى وإن لم يكن على أي من الأنهار الكبرى، يريدون ارتياد المدارس.

بكثير من المحبة لبلدانهم، وبكثير من الواقعية التي لا شطحات فيها بإمكان أمراء اليوم تحويل هذه الجيوش "البدوية" إلى حضرية بقليل من الترشيد، وبقليل من النزاهة.

الحكام العرب المعاصرون لا يحبون التاريخ، لا يحبون الثعلب، أول دروس أساتذة اليونان للتلاميذ الأمراء، كان يتلخص في أن الأمير مكون من نصفين، الأول سبعٌ، يستعمل حين يتطلب الأمر القوة، والنصف الثاني ثعلب، للخروج من المأزق.
الجريدة الرسمية