رئيس التحرير
عصام كامل

تمييز فوتوغرافي


تؤرخ الصورة لنبض هذا العالم، وتؤرخ أيضًا لموته. أرجو من الحالمات/ ين بتغيير جذري في المشهد، تفرضه صورة الطفل السوري أن يستيقظن/وا. الطفل الذي أشفق عليه البحر، فرماه إلى الشاطئ، خشية أن تأكله الأسماك. أصبح سيّد الصور ولأيام معدودات. بعدها عادت المأساة السورية لتنزف بوجع صامت، بعيدًا عن حفاوة الكاميرات.


الأسبوع الماضي صدرت صحيفة " بيلد" أكبر الصحف الألمانية وأوسعها انتشارًا، دون فوتوغراف، في محاولة للتدليل على جوهرية الصورة، ودورها في فهمنا للعالم، ومع ذلك ليس هنا "مربط خيلنا".

الصور أيضًا كائنات حيّة، تتمايز فيما بينها، وتمارس تمييزًا عنصريًا ضد بعضها الآخر. هناك صورة متخلفة، وأخرى نامية، وثالثة زنجية سوداء، وهذه الأنواع لاتهم صُنّاع السياسة إلا بقدر ماتحقق لهم من مصالح، وإلا فستبقى فرصة إطلالة لهم على الشاشات، لمشاركة المزاج الشعبي في حفلات الإستنكار والتعاطف.

"كيم فوج" الطفلة الفيتنامية، الراكضة، الهاربة، المحروقة بالنابالم الأمريكي المصبوب على قريتها، تتصدر قائمة الصور ذات النفوذ. نفوذها تعدى حصول المصور "نيك أوت" على جائزة" Pullitzer " في عام 1973. بلغت سطوتها حدَّ، إنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام، التي خسرت فيها مليونا ومائة ألف قتيل، وثلاثة ملايين جريح، و13 مليون لاجئ. خسائر الأمريكيين 57 ألف قتيل.

ثمة صور لا نفوذ لها. من منكم نسي صورة الطفل السوداني؟ المصاب بسوء التغذية والهُزال، وهو يحاول الوصول جاهدًا إلى أحد معسكرات الأمم المتحدة، علّه يحصل على ما ينجيه من الموت؟ ضمن هذا "الكادر" يقف نسر بحجم الطفل مرتين، ينتظر موته ليلتهمه دون تأنيب ضمير. يكفي أنه رأف بضعفه ولم يلتهمه وهو حي، كما تفعل الضواري. وبذلك يتشابه جميلُ النسر مع جميل البحر في شفقته على الطفل السوري.

صورة الطفل السوداني، منحت" كفن كارت" جائزة " Pullitzer " في عام 1994. بعد ثلاثة أشهر، انتحر لهول ما رأى من وحوش المجاعة في جنوب السودان. انتحر احتجاجًا على ماشاهد، وبقي السودان جائعًا ومعوزًا وفقيرًا ومقسمًا، وبقيت الصورة مدرجة في خانات المآسي الإنسانية، التي يقف العالم الأول أمامها مكتوف اليدين.

صورة الطفل السوري" إيلان" وعلى الأرجح، لن تتمتع بسطوة "كيم فوج"، كما أن عدّاد الموت السوري لم يرقَ بعد إلى المليون ومائة ألف ضحية، ورغم "السخاء" الأوربي في استقبال اللاجئين السوريين، فإن عددهم لم يصل إلى 13 مليونا، وللمولى الحمد نمتلك عددًا أقل من الجرحى.

لا أريد أن أسافر في التشاؤم بعيدًا، وعلى ذات القدر لا أريد أن أغرق في التفاؤل. أنا أقول إن الصورة مفردة إعلامية بامتياز، لكنها مفردة سياسية أكثر. فلو لم تكن هناك مشيئة سياسية عند الأمريكان، بالخروج من المستنقع الفيتنامي، الذي كبدهم خسائر بشرية فاقت قدرتهم على التحمّل، لما فتحوا المجال للصورة، لتكون مُبرّرًا للخروج من البلد في عام 1975. كل هذا الضخ لصورة الطفل السوري، وعلى مستوى الإعلام الدولي، جاء توظيفًا لأجندة ما. دور الصورة ينطلق من "إثارة المشاعر، لإحداث التأثير المطلوب" وبذلك تتم عملية الانتقاء، تظهير صورة، وتغييب صور مقتلة.
الجريدة الرسمية