رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

براءة اختراع عثماني


قبل خمسين سنة، نقلت سيارة شاحنة، ثلاثة فلسطينيين من شظى العيش في المخيمات إلى الكويت.. الشاحنة، هي صهريج مخصص لنقل الماء، ولما كان فارغا، اختاره المهرب لنقل هؤلاء البؤساء.. عبروا العراق، ووصلوا إلى حدود الكويت، توقف السائق للتفتيش، وأطال رجال الجمارك الحديث معه.. عاد السائق ليجدهم ميتين.


في تفاصيل رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، ثمة ما هو مخاتل ومتوارٍ، فالمهرّب عقد اتفاقا مع الرجال الثلاثة، بأن يلجأوا للقرع على جدران الخزان المختبئين في داخله، كلما ضاقت أنفاسهم.

لم يفعلوا.. ماتوا اختناقا عن سابق عزيمة.. هو الموت الرحيم، البطيء.. آثروا الموت في جهنم الخزّان حرًا ونقص أوكسجين، على أن يموتوا ميتة لا يعرفونها في بلدان اللجوء.

مصائر أبطال الرواية المنجزة عام 1963، تشابه مصائر شخوص آخرين اليوم، يجمعهم الدافع ذاته.. هم عرب، يعيدون إنتاج وجع اللجوء من الجغرافيا نفسها (السوريون نموذجا)، يكررون المآسي بأدوات مختلفة.

في الموجة العربية الجديدة من اللجوء، يركب الناس البحر بالقوارب المطاطية ليموتوا، هم يعرفون أنهم سيموتون، وأن نسب النجاة تكاد تكون معدومة في قارب يحمل مائة شخص، وهو مصمم لنقل عشرين على الأكثر!

الهاربون من الجحيم إلى الموت يدركون ذلك، ويقدمون عليه؛ لأنهم يفاضلون بين موتين، أحدهما تقليدي، متاح ومحقق في بلدانهم.. ويتمثل الآخر بامتطاء قوارب تتقاذفها الأمواج والقراصنة إلى أن تغرق بكل الأحلام التي فيها.

هامش أم متن؟
تنعدم الفوارق بين الأزمنة أحيانا، وكأن ما حدث في أواخر القرن التاسع عشر، يتكرر في الواحد والعشرين!.. فمن الأسباب المباشرة للهجرات العربية الأولى من بلاد الشام، الفقر والملاحقة والتجنيد الإجباري، وفرض الضرائب، والتتريك، التي كانت تمارسها سلطات بني عثمان ضد مواطنيها في دول شرقي المتوسط.

في تلك الأيام، كانت اليد العاملة العربية متوفرة بكثرة، وكانت عاطلة عن العمل، كان الناس في فاقة وعوز دائمين، وجاءتهم الدعوة الإمبراطورية.

في عام 1877 زار إمبراطور البرازيل بطرس الثاني، الذي يجيد العربية،، بلاد الشام، بدافع دعوة الناس للهجرة إلى وطنه؛ ليساهموا في إعماره وزراعة أراضيه الشاسعة، وقرَن دعوته تلك، متعهدا برعاية شئونهم والاهتمام لأمرهم.. عند هذه النقطة تلاقت نقطتا العرض والطلب، بدأ الناس بالآحاد ثم بالعشرات فالمئات فالآلاف.

لاحقًا، تم تنظيم الهجرة، بتوقيع اتفاقية بين السلطنة والبرازيل في العام 1892، وبذلك دشن سلاطين آل عثمان سابقة الهجرة، ففي تلك السنوات بدأت موجات الهجرة الأولى من بلاد الشام باتجاه دول أمريكا الجنوبية.

منذ تلك الأيام، وهذا الاختراع العثماني يتفشى في أصقاع البلدان والأقاليم التابعة للسلطنة.. بعد موت "الرجل المريض" بقى هذا "التقليد" ساري المفعول في الدول المستقلة.. عجز الطب عن تبرئتها.. الهجرة "اللجوء" لعنة، براءة اختراع عثماني.
Advertisements
الجريدة الرسمية