رئيس التحرير
عصام كامل

عن الإصلاح والثورة



يعتبر عدد كبير من الشباب الثورى الآن أن الإصلاح كلمة سيئة السمعة، وتندلع كثيرًا من الحوارات، أو بالأحرى "الخناقات"، الآن، وبحدة بالغة، تحت عنوان: "انت ثورى ولست إصلاحي!"، وقد عادت هذه الحوارات بذاكرتى إلى حقبة السبعينيات التي بدأت بانتفاضة الطلاب والعمال عقب الهزيمة، ووصلت إلى ذروتها بانتفاضة 18، 19 يناير 1977، وطوال الوقت، وداخل أروقة العمل السياسي اليسارى السرى، الذي دفعنا إليه دفعًا بفضل الاستبداد في السبعينيات، كان وصف أي زميل بأنه إصلاحى يعتبر اتهاما فظيعا يتوجب عليه أن ينفيه، وكعادتى في السباحة ضد التيار لم أكن في ذلك الوقت اعتبر أن الإصلاح تهمة تستوجب الإنكار. لماذا ؟!


لأننى كنت، ولازلت، أؤكد على أن أي ثورى هو في التحليل الأخير شخص يريد أن يصلح العالم الآن وفورًا إصلاحًا جذريًا وفقًا لتصور معين، بينما الإصلاحى هو الشخص الذي يريد أن يصلح العالم بالتدريج للوصول إلى نفس الإصلاح الجذرى الذي يريده الثورى أو يريد فقط إجراء إصلاحات جزئية، ولأن الظروف الموضوعية لا تجعل الإصلاح الجذرى أمر ممكن الآن وفورًا إلا في لحظات خاصة وعارضة، فلا يوجد إذن أمام الشخص الثورى في الأحوال العادية إلا عدة بدائل.

الأول: أن يكف تمامًا عن العمل والحركة في غير اللحظات الثورية، ومن الممكن أن يقع جراء ذلك فريسة اليأس والإحباط فينكفئ على نفسه أو يهرب إلى خارج الوطن أو خارج عالمه إلى عوالم أخرى من الضياع.

والثانى: أن يظل يتصرف وكأن الإصلاح الجذرى والكلى ممكن الآن، فيجد نفسه، مع مجموعة صغيرة من الذين يتبنون نفس الموقف، يحاولون وحدهم القيام بهذه الثورة فينتهى بهم الحال إلى عزلة كاملة عن الناس الذين يفترض أنهم أصحاب المصلحة في الإصلاح أو الثورة المنشودة، ومن الممكن أن تقوده هذه الحالة إلى اليأس والإحباط وربما إلى كراهة الناس أيضا.

أما البديل الثالث: فهو أن يغير الشخص الثورى أساليب حركته في اتجاه "إصلاحى"، بمعنى أن يحاول إجراء إصلاحات تدريجية وجزئية في اتجاه الإصلاح الجذرى الذي يحلم به، ولعل ذلك ينتهي إلى تحقيق هذا الإصلاح المنشود مع الوقت أو لعل الأمر ينتهي إلى لحظة ثورية أخرى عندما يدرك السواد الأعظم من الناس أن كل سبل الإصلاح قد أغلقت ولم يعد هناك مفر من الثورة بكل ما يعنيه ذلك من الآم وتضحيات وعندئذ سيكون على نفس هذا الشخص أن ينقلب مرة أخرى من إصلاحي إلى ثوري.

وكنت دائمًا أؤكد على صحة موقفى من خلال تجربتين تاريخيتين، الأولى مصرية بطلها هو سعد باشا زغلول، الذي عمل وزيرًا في حكومة كان يرعاها اللورد كرومر المندوب السامى لبريطانيا العظمى، والذي اعتبره المتعاونون معه من بشاوات مصر رائد "الإصلاح" في البلاد، وكان سعد باشا الإصلاحى هذا هو نفسه الرجل الثوري الذي قاد وهو في الرابعة والستين من عمره ثورة 1919، بل وكان سعد باشا أثناء قيادته للثورة يجمع في نفس اللحظة التاريخية بين وجه "إصلاحي" يقود المفاوضات مع بريطانيا واصفا إياها بالوطن الأم، وبين وجه "ثوري" كان يوجه عبد الرحمن فهمي، الذي يمكن وصفه بأنه قائد الجناح العسكري لثورة 19، لتوجيه ضربات مسلحة لقوات الاستعمار البريطاني في مصر.

التجربة الثانية روسية، والثورة الروسية، كما لعلك تعلم عزيزى القارئ، تعتبر المرجع الثانى للثورة عند كل المفكرين في العالم بعد الثورة الفرنسية، وهى بالتأكيد المرجع الأول بالنسبة لمفكرى اليسار، والواقعة التي أود الإشارة إليها تتعلق بتهمة "الاقتصادية" التي وصف بها لينين جناح من القوى الثورية الروسية، وكان هذا الجناح يعتبر أن النضال من أجل تحقيق المطالب الاقتصادية فحسب هو الطريق الوحيد الصحيح، وبسبب اتهامات لينين لهذا الاتجاه كان بعض مناضلي اليسار ينظرون بتعال وشك لكل نضال نقابي يهدف إلى تحقيق مطالب اقتصادية في السبعينيات، وعندما اعترضت على هذه النظرة في ذلك الوقت رجعت إلى كتابات لينين وفهمت أن الرجل اعتبر أن الاتجاه الاقتصادي كان هو الاختيار الأمثل.

لأنه الاختيار الممكن، في لحظة معينة من لحظات تطور الوعي العمالي، واللحظة التي انتقل فيها هذا الوعي إلى آفاق أكثر رحابة، وأصبح من الممكن أن تتبنى الحركة العمالية مطالب سياسية، أصبحت النزعة الاقتصادية انحراف، ومن ثم يمكننا أن نفهم من لينين أن ما كان يصلح في لحظة معينة كتكتيك صحيح لا ينبغي أبدا أن يرتفع إلى مقام النظرية "الصحيحة" الصالحة لكل زمان ومكان، وما كان صحيحا في لحظة معينة، لأنه التكتيك الممكن، قد لا يكون صحيحا في لحظة أخرى.

أذكر أن أحد الشعراء الأيرلنديين، استنادًا إلى ذاكرتى، قال: "إذا كنت مطرقة.. اضرب، وإذا كنت سندان.. تحمل"، والظروف، كما لعلك تدرك عزيزى القارئ، هي ما يمكن أن تجعلك مطرقة أحيانًا، أي "ثورى" بلغة السياسة، أو سندان في أحيان أخرى، أي "إصلاحى" بلغة السياسة.
الجريدة الرسمية