رئيس التحرير
عصام كامل

عمر يبحث عن قوت يومه في «الزبالة»

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

وسط تلال القمامة في المحافظة الصعيدية «قنا» شق طريق الشقاء مرغما.. عنوان لحكاية الطفل «عمر» تحمل بداخلها ألف حكاية، مغلفة بالحزن والأسى.. فـ«لقمة العيش» أجبرته على العمل بمهنة جمع العبوات البلاستيكية من القمامة، خاصة بعد أن فقد والده في حادث سير، وأصبح ليس له سوى والدته وأخواته الذي يعمل من أجلهن، حتى يتمكن من تزويجهن ومنحهن قدرا من الأمن والاستقرار.


امتهان هذا العمل غير العادي، فسره عمر بقوله «لم أجد سواها، ويوميًا مطلوب منى جمع طن من البلاستيك حتى أحصل على 40 جنيهًا، واليومية يحددها الإنتاج، فأجر كل طفل يحدده ما يجمعه يوميًا، وبالرغم من الروائح الكريهة التي نشمها والحشرات التي تصادفنا أثناء جمع البلاستيك من القمامة، إلا أننا نجد فيها أشياء كثيرة مفيدة لنا».

وفى ظروف مثل التي يعيشها «عمر» يصعب على أي طفل بدء حياة طبيعية، أساسها المدرسة، حتى ولو كان يحلم كأقرانه بمستقبل مشرق «أنا طلعت من الصف الثالث الابتدائي، وكان نفسى أكمل دراستى وأطلع دكتور، بس مش حينفع، مين حيصرف على البيت غيرى بعد ما والدى توفي، وأصبحت أنا المسئول الأول عن البيت، ووالدتى بتشتغل في البيوت علشان تربى إخواتى البنات الثلاثة، لكن هاحاول خلال الفترة اللى جاية إنى أشتغل وأدرس في فصول محو الأمية، خصوصا أنه بعد زواج أختى الكبيرة الأعباء ستقل».

سنوات عمره التي لا تزيد على الـ 11، تجعله شديد التأثر والتحسر على طفولته الضائعة، فما إن يشاهد طفلا في مثل سنه يسير برفقة والديه حاملا لعبة في يديه، خاصة أيام العيد والمناسبات السعيدة، ينزوى إلى ركن الحزن والبكاء، لكن رغم ذلك بداخله إيمان قوي، ويحمد الله على نعم يرى غيره قد حرم منها مثل الصحة «عندما أشاهد طفلا مريضا في التليفزيون، أشعر وقتها بنعمة الصحة، خاصة إذا كان هذا الطفل في نفس عمري، وأعرف وقتها أننا نعيش أشياء عكس بعضها لكنها الحياة، سواء رضينا أم لم نرض بها، وقدرنا أن نعيشها هكذا».

عن مشقة العمل الذي يزاوله والصعوبات التي كان يواجهها في البداية، قال «عمر»: «بمرور الوقت بدأت جميع الصعوبات تخف، واتعودت على المهنة واللى فيها، واتعلمت لغة الناس اللى بتشتغل فيها، وحاليًا أصبحت البرنجى في المهنة دى، وبقيت بجمع كتير عكس الأول، ومفيش حد يقدر يضحك عليا، وحتى الناس اللى بشتغل معاهم مبسوطين أنى قدرت أكمل وأشتغل، وأكسب بعرق جبيني، وكلهم عارفين أنى بساعد أمى في تربية اخواتي».

الأجر الذي يتقاضاه «عمر» هل يكفى احتياجاته والأسرة؟.. سؤال أجاب عنه «الحمد لله بتعدي، وإن شاء الله قريبا وبمساهمة أهل الخير سوف أزف شقيقتى إلى بيت الزوجية، وبأمر الله هكمل المشوار مع أخواتى لحد ما أشوفهم في بيوتهم، علشان أحقق وصية أبويا».

أكبر أمنية يحملها عمر بداخله «أشوف أمى بتزور الكعبة، وأخليها تحج بعد ما أكمل رسالتها وأزوج أخواتي».
عن أصعب المواقف التي مرت على «عمر» وكانت لها تأثير في شخصيته لدرجة أنها انتزعت الخوف من قلبه «يوم ما شفت كلب أسود في الخرابة اللى عند المدينة الصناعية، طلع عليا كلب أسود، وفضلت أجرى وأجرى وتخيلت إنه بيجرى ورايا من كتر الخوف، لكن ما كانش فيه حاجة، ومن وقتها بطلت أخاف من حاجة، لأن والدتى كانت بتقول اللى يخاف من العفريت يطلع له».

بينما يبقى يوم رحيل والده النقطة السوداء في ذاكرته «حينها حزنت وبكيت بشدة، وحسيت بطعم المر، وشفت السواد اللى في الدنيا كله، وما كنتش عارف وأنا بدفنه وشايف أمى بتبكى وبتصرخ إنى هبكى عمرى كله عليه، ووقتها فضلت حابس دمعتى جوه قلبى لغاية الناس ما مشيت من عند القبر، وجلست وحدى أبكى وأصرخ، ومش عارف أعمل إيه، لكن ده قضاء الله وقدره، والحياة لازم أكمل علشان أمى وأخواتي».

وما لا ينساه «عمر» واقعة السرقة التي تعرض لها « كنت لسه شغال جديد، وأصحابى قالوا لى تعالى العب معانا على فلوس، وضحكوا عليا وسرقوا كل الفلوس، ورجعت البيت من غير ولا مليم، وأمى وقتها ضربتنى علقة مش حنساها في حياتي، ودى كانت أول وآخر مرة أعمل كده».

لكن لم ينجرف «عمر» كغيره إلى سكة السجائر «الحاجة الوحيدة اللى رفضت أعملها زى أصحابى هي دى، ولما حد يعرض عليا سيجارة، أرميها أو أعطيها لأى من أصدقائي، وأعمل نفسى كأنى شربتها علشان محدش يضحك عليا».
جمع البلاستيك من القمامة، ليس العمل الوحيد الذي زاوله «عمر»، حيث تنقل بين بيع المناديل والجرجير والبالونات، وأحيانا يعمل في ورشة خراطة أو في مقهى، عندما يصعب الحال في جمع البلاستيك «جربت أشتغل في حاجات كتير، وكان مرة حد عرض على أبيع حاجات مش كويسة ورفضت بالرغم من أن والدتى كانت تعبانة، لكن لا يمكن أبيع حاجة عارف أنها حرام وفلوسها أكيد حرام».

«عمر» ليس بعيدا عن متابعة أوضاع وأوجاع الوطن، بل إنه حريص على معرفة ما يدور «أنا بتابع على قد ما أقدر التليفزيون، بس أكيد الحال أحسن من الأول، هي عاوزة شوية صبر، وها نبقى أحسن من كده، وبالنسبة للأسعار كل يوم بترتفع، ومش إحنا بس، برضه كل الناس اللى راجعة من دول الخليج بتقول الأسعار مرتفعة في كل مكان، وإن شاء الله مصر حتبقى زى ما قال الرئيس السيسي «أد الدنيا»، وهو راجل بيحب مصر وعاوز يخليها أحسن بلد في الدنيا، لكن فيه ناس بتحاربه ومش عاوزة تقف مصر على رجليها تاني، بس ده مش ها يحصل».
الجريدة الرسمية