رئيس التحرير
عصام كامل

كم من سارق للصابون



الفكرة على هذا النحو البسيط. كيف لقامة ثقافية أن تتحول إلى منظّرة لجماعات إرهابية؟ كيف لكتّاب كبار أن يبيعوا جغرافيا بحجم وطن.


منذ أربع سنوات وأنا استحضر«غوستاف لوبون». أتذكر سرديات «سيكولوجيا الجماهير» فيما أشاهد على الشاشات، القامات الفكرية السامقة وهي تلعب دور القائد المحرض على التطرف والإقصاء. قامات تحوّل مضمون خطابها الراقي، العميق، إلى موتور، رعاعي، يداعب غرائز الجماهير. الجماهير التي « لاتعقل» عند لوبون.

الإرهابيون يشترون أبواقهم كما يشترون معدات التصوير، يتسوقون من سوق نخاسة الكتّاب، الذي تم افتتاحه بشكل صفيق بعد هبوب رياح التغيير على بعض الدول العربية.الرياح التي حملت معها الكثير من السموم.

عالم الاجتماع الفرنسي يفسر لنا، كيف يتحول العقلاء إلى جهلاء، حينما ينخرطون في حركة الجماهير. النتائج المباشرة لهذا الانخراط تبدأ من تلاشي الشخصية الواعية، لتحل محلها شخصية نقيضة، مرورا بالميل إلى ترجمة الأفكار المُحرّض عليها إلى فعل عملياتي واقعي، وانتهاء بأن الانضمام إلى الجماهير يسلب الفرد مكانه قبل. أي لا يعود الفرد هو نفسه، يصبح روبوتا.

لوبون لا يحدد مستوى تعليميا، لمن يفقدون هوياتهم العقلية عقب انضمامهم إلى كتلة الجماهير. السؤال المشاغب الدائر في رأسي، فيما إذا كان هؤلاء يقومون بشنيع فعالهم عقب انخراطهم في حركة الجماهير، أي يقومون بذلك كردة فعل على ما تم شحنهم به في فترة انضمامهم إلى الجماهير التي يغيب فيها التأمل ويحضر فيها الاستلاب. فمجرد أن يخرج الفرد من التجمع يعود إليه رشده ومحاكمته العقلية.

في كل الأحوال، شعوري بفهم الظاهرة يمنحني بعض الراحة. الغضب. السخرية. الاشمئزاز، يأتي من عجزي على استيعاب استسهالهم بيع جغرافيا بحجم وطن.

منذ أربع سنوات، وأنا أتابع عينات عشوائية من المثقفين العرب، يقومون بأدوار السحرة، يبدلون ألسنتهم وقواميس مفرداتهم، يحولون مقولات العنف إلى إرهاب يستولد كل يوم مقتلة جديدة ضحاياها أبرياء، لا ناقة لهم في سوق الإرهاب ولا جمل.

من يتجرأ على القول بأن الرأي العام العربي يمتلك مناعته الذاتية؟ ومن قال إن الرأي المنيع والمحصن يمتلك أدوات الصد أمام هذا الضخ المتواتر الأحادي، الذي لا يقابله خطاب مضاد بذات الحضور والزخم؟

بعد أربع سنوات من الرياح، وأصر على أن بعضها سموم، تغيرت جلود كثيرين، وتغيرت ألوان مفرداتهم، تبدلت ظلال أفكارهم. سافروا بعيدا في انقلابهم لدرجة أنك لم تعد تذكر من ماضيهم شيئا يتعلق بنصاعة البياض أو الرقي. فاجأوك بأن استتارهم السابق خلف جدران الياسمين، لم يكن إلا كمينا بانتظار صافرة الحقد. هؤلاء تنصفهم قصة الخفاش الذي سرق يوما قطعة صابون. سأله أهل البيت لماذا سرقتها؟ لن تأكلها أو تستحم بها. الأذية طبع. جاوبهم الغراب. كم من سارق للصابون.
الجريدة الرسمية