رئيس التحرير
عصام كامل

أكذوبة القضاء المسيس وحقيقة الفقه المغيب


يحلو لطرة من فقهاء القانون الدستورى، أن يزعموا فى الآونة الأخيرة أن الموضوعية والعلمية هى حكر عليهم، وذلك رغم جهلهم بالتطورات الحديثه لكثير من المفاهيم الدستورية والقانونية الحديثة، التى تلوك بها ألسنتهم عن فرنسا وعن موقف القضاء الفرنسى من تلك المفاهيم.


فإذا ما قرر القاضى الدستورى أو الإدارى حكما على نحو مغاير لما توقعوه فهو تعبير عن قضاء مسيس، وكأن القضاء لا ينبغى أن يعرف التطور شأنه شأن المفاهيم الدستورية كلها، على أن الاتهام بالتسييس هو اتهام انتقائى فينجو منه قطعا حركة مثل "قضاة من أجل مصر"، وينجو منه كذلك النائب العام الحالى وقراراته العديدة، بينما يقع تحت طائلة الاتهام بالتسييس كل قضاء يقوم بدوره الطبيعى والمعتاد منذ ما يتجاوز نصف قرن فى الرقابة على مشروعية أعمال السلطة التنفيذية وعلى دستورية قوانين المجلس التشريعى، إنه من الملفت للنظر اليوم أن الاتهام يوجه بصورة غير لائقة وظالمة وغير مسبوقة إلى قاضى القانون العام بالذات أى القضاء الإدارى والدستورى.

فأيا كان الحكم القضائى إداريا كان أم دستوريا وأيا كان موضوعه وأيا كان العوار الذى أبرزه الحكم بأسانيده الفنية والقانونية القوية، فالباعث عند أصحاب الاتهام الغريض دائما واحد: أن القضاء مسيس وأن العوار ليس فى العمل المعيب الخاضع لرقابة القاضى ولا فى صنيعة أياديهم العبقرية، وإنما يكمن العيب فى الحكم القضائى ذاته وفى القضاء المسيس، لأنه لم يسلك الدروب التى توقعوها له ولم يتطرق إلى أذهانهم الفذة لحظة واحدة، إنه سلط عليهم من أعمالهم: فلم يتبن القاضى أسبابهم ولا توقعاتهم التى لا تمت بصلة للتطور الحالى لعلم القانون العام، كما لو كانت عقارب الساعة قد توقفت عند حقبة الستينيات والسبعينيات فى العالم كله، ومصر تظل هكذا الدولة الوحيدة فى العالم التى يكتب على أبنائها من طلاب الحقوق أن يدرسوا سنة ٢٠١٣ وعلى أيدى هذا الفقه المسيس ترهات أصبحت ركاما لحقبة قد مضت أو تراثا لفترة قد زالت، كنظرية أعمال السيادة التى كان أول من دفنها القاضى الإدارى الفرنسى الذى خلقها.

إن الكثيرين من أصحاب هذا الفقه الغريض لا يدرون شيئا البتة عن الحقائق القانونية التالية فى القانون الدستورى والإدارى الفرنسى الذى يتمسحون ويتشدقون به:
أولا: القاضى الإدارى الفرنسى يقبل طعون التعويضات عن التشريعات المسببة لأضرار مباشرة للأفراد، كما يقبل الاختصاص فى التعويض عن أعمال الحكومة التى تخرج عن دائرة اختصاصه إذا سببت ضررا خاصا للغير ويبنى قضاءه على مبدأ دستورى هام وهو المساواة أمام الأعباء العامة، والأحكام القضائية الفرنسية موجودة حديثة ويمكن لكل باحث أن يقرأها ليتأكد من مغالطات الفقه الذى يدعى بأن أعمال السيادة ليست محلا لأى طعن وبأى وجه حتى فى فرنسا!

ثانيا: لقد اتسعت رقابة الإلغاء على أعمال السلطة التنفيذية اتساعا مهولا وغير مسبوق فى فرنسا، وشمل ذلك أعمالا ما كانت لتدخل فى اختصاص القضاء الإدارى لولا التطور الهائل الذى لحق بكل شىء بما فى ذلك مفهوم الدولة القانونية وعلم القانون بطبيعة الحال، ومثال ذلك القرارات السابقة على إبرام المعاهدات والقرارات المرتبطة بالمعاهدات الدولية وتنفيذها والأحكام القضائية عديدة فى هذا المجال ولعل المعرفة بها تدعو هذا الفقه إلى الحياء والخجل من ترديد كلمة أعمال السيادة على عوانها وبلا تمييز.

ثالثا: فى طعون الانتخابات على وجه الخصوص وكل ما يشمل دعوة الناخبين وإجراءات الانتخاب والاستفتاء، كل ذلك يخضع لرقابة المجلس الدستورى الفرنسى وبعض الطعون مازالت تتعلق حتى اليوم باختصاص مجلس الدولة الفرنسى، والقول بعكس ذلك هو جهل تام بالقانون العام الفرنسى وبأحكام القضاء الفرنسى، إننى لا أملك إلا الدهشة والحسرة عند سماع تصريحات بعض المتفيقهين من المقربين للسلطة فى حديثهم عن الفقه والقانون الفرنسى الذى يجهلون كل تطوراته فى الثلاثين سنة الأخيرة، ويؤكدون بيقين المؤمن أن لا اختصاص للقضاء الفرنسى بقرارات رئيس الجمهورية بينما الأحكام الصادرة من القضاء الإدارى والدستورى الفرنسى موجودة ومتاحة لو استطاعوا قراءاتها وفهمها لما ثارت مشكلة أصلا.

رابعا: إن حرمان الأفراد من حقوق الطعن واللجوء لقاضيهم الطبيعى كان أيضا معتبرا كعمل من أعمال السيادة فى نظر الفقيه الجهبذ الذى وضع الإعلان الدستورى الصادر فى ٢١ نوفمبر! بما فى ذلك من عدوان مزدوج من ناحية على حق المواطن فى اللجوء للقضاء ومن ناحية أخرى على الاختصاصات الدستورية للقاضى، وفى ذات السياق وبذات التكييف لا يجوز أن يعزل نائبا عاما من منصبه بقرار جمهورى وبالإرادة المنفردة لرئيس السلطة التفيذية وأن يعين آخر بذات الإرادة ودون الإجراءات والضمانات التى تضمنها الدستور وقانون السلطة القضائية فى التعيين، فكل هذا البله ليس من أعمال السيادة فى شىء وإنما هو نوع من القرصنة والقرارات غير المشروعة.

خامسا: وماذا لو علموا بأن القضاء الدستورى الفرنسى يخلق ما يسمى بالمبادئ ذات القيمة الدستورية ويستلهمها من نصوص عديدة بعضها موجود فى تشريعات أساسية كبرى أو فى معاهدات لحقوق الإنسان ولا وجود لها أصلا فى الدستور؟ أين حرية تكوين الجمعيات فى الدستور الفرنسى؟ وأين مبدأ احترام الكرامة الإنسانية؟ وأين مبدأ استقلال الأساتذة الجامعيين واستقلال القضاء أو فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية؟ كلها مبادئ دستورية من صنع القاضى الدستورى الفرنسى فى إطار رقابته السابقة على الدستورية التى اعتبرها عباقرة القانون فى مصر رقابة سياسية محضة، بل أكثر من ذلك فقد خلق القاضى الدستورى موجهات دستورية جديدة تقيد إرادة المشرع ومنها "الغايات ذات الطبيعة الدستورية"، أو ما يسمى "بالأهداف الدستورية للتشريع ومدى بعده عنها"، فيجازى التشريع ويقضى بعدم دستوريته إذا لم يحترم الأهداف الدستورية التى وضعها له القاضى الدستورى ولا نص عليها فى الدستور ذاته.

 لا شك أن رد فعل طرة من الفقه الدستورى المسيس فى مصر قد يبدأ بالإغماء وقد ينتهى بالصراخ والعويل عندما يقرأون حكما من القاضى الدستورى الفرنسى يقرر فيه عدم دستورية تشريع جديد لأنه ألغى ضمانات كانت موجودة فى التشريع الملغى دون أن يستبدلها بضمانات مساوية لها فى الفعالية وهو قيد هائل على إرادة المشرع وهو ما يعرف فى فرنسا بنظرية "التشريع المرتد".

سادسا: ومن الأهداف ذات القيمة الدستورية التى يجب أن يتوخاها التشريع وإلا قضى بعدم دستوريته هو مبدأ شفافية وحسن صياغة التشريع وكم ألغيت تشريعات فى فرنسا لهذا السبب وحده، فهو فى ذاته قيد يفرض على المشرع رصانة العبارة وحسن الصياغة ودقتها وانضباطها، ما يعنى استبعاد المفردات الإنشائية أو المطاطة وانتقاء الصيغ المعبرة عن قواعد معيارية وتتناول بدقة وإحكام سلوك محدد، ولو خرج المشرع عن هذه الضوابط لقضى بعدم دستورية التشريع، وكل ذلك يقوم به القاضى الدستورى الفرنسى فى إطار الرقابة السابقة على دستورية التشريع ولأحكامه حجية الشىء المقضى به وتلزم كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية فى الدولة، ومن هذه الأهداف أيضا مبدأ حماية تعددية المذاهب الفكرية والفلسفية والسياسية وكل تشريع يهدد هذا المبدأ ولا يكفله يتعرض للإلغاء، فالمبدأ ليس موجودا فى نص دستورى مكتوب وإنما تصوغه أحكام القاضى الدستورى، ولم يتهم أحد فى فرنسا القاضى الدستورى بالتسييس بالمعنى الذى يستهمه الفقه الدستورى المتحزب فى مصر.

فى النهاية لا أملك إلا التنبيه بمواطن القصور ومواضع الزلل وتكرار ما ردده غيرى بأننا بصدد جهل نشيط يحكم البلاد ويدعى علما بما هو موجود فى فرنسا لتبرير انتقاداته العرجاء للقاضى المصرى، بينما الجهل بالقانون الفرنسى واضح فى كثير من التصريحات، إن من واجبى كأستاذ مصرى يقوم بتدريس القانون الدستورى والإدارى الفرنسى منذ عشرين عاما بكليات الحقوق الفرنسية ألا أقبل هذا العبث بالعلم فى سبيل السياسة.

بقى سؤال أخير: لماذا هذه البدائية والتأخر فى الاطلاع على تطورات المفاهيم الدستورية الحديثة والتى أصبح لها مضامين وأبعاد جديدة فى العالم كله إلا فى أعين بعض أساتذة القانون العام المصريين؟ حتى إنه مازال بعضهم ينادى فى الجو المحتقن الحالى بإعلان حالة الطوارئ فى البلاد بأسرها وفرض الأحكام الاستثائية !!!

لماذا هذه البدائية؟ هذا هو ملخص المأساة.



الجريدة الرسمية